لم يشأ الطبيب أن يقول للرئيس السابق : أفضل لك ألا تطلب أن تعامل گالرئيس محمد نجيب فأنت أسعد حظا ً منه بكثير ! يغفو مبارك، ويري فيما يري النائم، نفسه والجماهير تحمله إلي مقر الرئاسة، وهو يخطب فيهم متوعداً المتآمرين وأصحاب الأجندات ولو كانوا بالملايين ! 1 قبل أن يغادر حسني مبارك مستشفي شرم الشيخ لآخر مرة ليمثل لأول مرة أمام المحكمة ، سأل أحد أعضاء الفريق الطبي الذي يعالجه: - ألا أستحق بعد كل ما قدمت معاملة كتلك التي لاقاها محمد نجيب أول رئيس لجمهورية مصر؟! كان مبارك عاتبا، غاضبا علي البلد الجاحد، وناقما علي الشعب الناكر للجميل! اكتفي الطبيب بأن يهز رأسه باشارة لا معني لها.. ولم يشأ أن يقول لمبارك: ولكن محمد نجيب ظلمناه ولم يظلمنا. كان رجلاً طيب القلب لم يستبد بالناس ولم يطغَ بالحكم. لم يتربح ولم يترك أحداً يسرق باسمه أو بإذنه. لم يٌحول مصر إلي عزبة يعربد فيها المحاسيب ويهيئها ليرثها ابنه في حياته أو من بعد مماته. لم يأمر باطلاق النار علي مواطنيه أو قتل أبناء شعبه، علي الأقل لم يغض البصر عن حصدهم بالرصاص ودهسهم بالسيارات في الميادين والشوارع. ومع ذلك اعتقلناه دون أمر نيابة، وسجناه بلا محاكمة، في قصر مهجور بالمرج، لمدة ثلاثين عاماً، لم يؤنسه فيها أحد سوي القطط والكلاب. لم يشأ الطبيب أن يقول للرئيس السابق: -أفضل لك ألا تطلب أن تُعامل كالرئيس الأول محمد نجيب، فأنت أسعد حظا منه بكثير! 2 »أفندم«..! قالها مبارك وهو داخل قفص الاتهام، لرئيس محكمة الجنايات المستشار أحمد رفعت، حين نادي عليه كمتهم أول في القضية رقم 2463 لسنة 1102 جنايات قصر النيل. آخر مرة تفوه مبارك بهذه الكلمة، كانت منذ ثلاثين عاماً. بالتحديد يوم 6 أكتوبر عام 1891، وخاطب بها الرئيس الراحل أنور السادات يوم العرض العسكري! 4 ساعات أمضاها مبارك داخل القفص، يتابع حينا وقائع الجلسة، ويشرد أحيانا عما يدور في القاعة. طوال هذه الساعات، كان ابناه علاء وجمال يقفان علي قدميهما داخل قفص الاتهام، أمام السرير النقال الذي يرقد عليه مبارك. بدا أنهما يحولان بين عدسات كاميرات التليفزيون وبين والدهما الرئيس السابق، وبدا أيضا انهما يحاولان رسم صورة لهما كابنين بارين بأبيهما أمام عيون الملايين، عساهما يكسبان بعض تعاطف لهما وله! هذه المرة كان الابنان المتهمان أمام الأب الرئيس السابق يسترانه من العيون المتعطشة وعن الكاميرات النهمة، بينما في كل مناسبة كان الأب الرئيس أمامهما يتستر علي أطماع واحد منهما في المال وعلي طموحات الآخر في الحكم! من بين قضبان وأسلاك القفص، يختلس مبارك نظرة نحو المنصة، يتفحص ملامح هيئة المحكمة، يرنو نحو القاضي، يتساءل: كيف يتجاسر علي أن يخاطبه ب »المتهم«؟ ما الذي جري للدنيا؟!.. متي يستيقظ من هذا الكابوس الأسود؟! يطالع عبارة محفورة علي المنصة الخشبية تقول: »العدل أساس الملك«.. يغمض عينيه في حسرة، ويجتر شريطا طويلا من الذكريات في السلطة! يتذكر يوم وقف في مجلس الشعب منذ 73 عاماً مضت مع قادة حرب أكتوبر يتسلم أرفع وسام عسكري، ويتقلد رتبة الفريق. يتذكر يوم وقف علي منصة مجلس الشعب منذ 03 عاماً مضت يتلو القسم كرئيس للجمهورية. يتذكر يوم وقف أمام الصاري في وادي طابا يرفع العلم المصري منذ 22 عاماً مضت. يتذكر يوم وقف في شرفة قصر عابدين، يحيي الجماهير الحاشدة التي جاءت تهنئه بسلامة العودة والنجاة من محاولة اغتياله في اديس أبابا قبل 51 عاماً مضت. تطارده ذكريات أخري لاناس من داخل القصر وهم يزينون له ادخال علاء ابنه إلي دنيا البيزنس ويقولون: لماذا تحرم ابنك الأكبر من العمل الحر، أليس مواطناً كباقي المواطنين، هل يجب أن يتعطل عن العمل لأنه ابن رئيس جمهورية أو هل عليه أن يفتح كشك سجائر ليتكسب؟! ذكريات تطارده لأناس من حوله في الأسرة، وداخل السلطة، ومن رجال الأعمال، يهمسون له وكأنهم يعاتبونه: لماذا تحرم البلاد من كفاءة نادرة كجمال، لماذا لا تستعين به كمستشار اقتصادي لك؟!.. ثم تعلو الهمسات وتتعالي: لماذا لا تدفع بجمال إلي الأمانة العامة للحزب الوطني، ليعيد لها الحيوية، ويصعد برفاقه الشبان إلي القيادة بدلاً من رجال الحرس القديم ربيبي الاتحاد الاشتراكي؟! يتذكر مبارك كيف رضخ لهؤلاء وأولئك، وكيف انصاع لإلحاح قرينته التي أرادت أن تكون زوجة رئيس وأم رئيس وريث. يتذكر بعدها كيف عصف بكل شخصية رفعت رأسها واكتسبت بعض شعبية وأطاح بها من مواقعها، حتي تخلو الساحة لابنه.. وكيف استكان لرغبة زوجته التي مزقت قراراً وقعه منذ سنوات بتعيين نائب له. يطرد مبارك من رأسه الذكريات التي تطارده، يعود ليسترجع مشاهد الهتاف بحياته، والاحتفالات بالمشروعات التي افتتحها، يبتلع ريقه في مرارة وهو يتذكر يوم افتتح »أكاديمية مبارك للأمن« وتجول فيها، يحرك عينيه داخل القفص، ويسأل نفسه هل زار يومها هذه القاعة التي يحاكم فيها الآن؟! 3 الآن.. يرقد مبارك علي سريره في الجناح الرئاسي بالطابق الخامس في المركز الطبي العالمي. إنه يحب الأماكن المرتفعة. يعشق النظر من أعلي منذ كان طياراً، ينظر بعيداً ويري المشهد دون تفاصيل تخدش بهاءه. هل كان عليه أن ينزل قليلا من عليائه، أن يطالع التفاصيل، أن يستمع للأصوات لا للتسجيلات، أن يقرأ الوجوه لا التقارير؟! يأتيه صوت الأذان من مسجد المستشفي: الله أكبر! يتذكر صيحة الجنود يوم العبور. إنه يرقد الآن في مستشفي بمدينة تحمل اسم العاشر من رمضان. بعد أيام ستحل ذكري نصر العاشر من رمضان. تري هل يتذكره الناس كقائد للقوات الجوية في حرب رمضان، هل سيذيع التليفزيون أغنية »أول طلعة جوية«؟! يرنو مبارك إلي الغرفة. كل ما فيها أبيض. السرير أبيض، المفروشات بيضاء، الجدران بيضاء، زي الأطباء والممرضات أبيض، الأكواب بيضاء، قرص الدواء أبيض، حتي رداؤه هو أبيض! يسأل نفسه: لماذا تغير قلب المصريين الأبيض؟! هل من أجل ألف قتلوا في ثمانية عشر يوماً قبل خروجي من الحكم؟! لقد مات أكثر من هذا العدد غرقا في العبارة، ولم يثر أحد، حتي الدولة نفسها لم تعلن الحداد! يغفو مبارك، ويري فيما يري النائم، نفسه والجماهير تحمله إلي مقر الرئاسة، وهو يخطب فيهم متوعداً المتآمرين وأصحاب الأجندات ولو كانوا بالملايين. يستيقظ من غفوته، ليعيش من جديد واقع الكابوس.. ويتساءل: لماذا تغير الشعب.. أين ذهب المصريون الذين أعرفهم؟! 4 هل تغير المصريون؟! أجيبك أنا يا سيادة الرئيس السابق. نحن أناس طيبون، لكننا لسنا سُذَّجاً بلهاء. نحن صبورون، نمد حبال الصبر إلي آخر مدي. لكن إذا عيل صبرنا، ينفجر غضبنا شظايا محرقة. نحن حمولون، نتحمل القسوة وشظف العيش لكن في سبيل غد أفضل، أو ضوء في آخر النفق المظلم. نحن متسامحون، نغفر الذنوب والخطايا، إلا في الأرض والعرض والكرامة والدم. نحن أيضا فخورون ببلدنا، نعشق مصرنا، ولا نقبل أن تكون عقاراً يورث. نحن يا سيادة الرئيس السابق، أمة متحضرة، هكذا يرانا العالم، ولم تكن أنت ترانا. مخزوننا الحضاري متراكم منذ آلاف السنين. كان هو مددنا يوم خرج شباب مصر في اليوم التالي لتنحيتك، يكنسون الشوارع وينظفون الأرصفة ويدهنون الأسوار ويجملون الميادين. وكان هو زادنا يوم كظمنا غيظنا وكبحنا جماح نوازع الثأر لدماء الشهداء، وقمعنا نزعات الانتقام، وتركنا شأنك وحوارييك للقضاء المدني، يحاسبك في محاكمة عادلة نزيهة علنية، تحظي فيها أنت وغيرك بحقكم في الدفاع غير منقوص. لن يغمطك التاريخ حقك. ولن يمسح خطاياك. سوف يسجل لك دورك كأحد قادة حرب أكتوبر، وسوف يسجل لك أنك رفعت علم مصر فوق طابا. سوف يسجل لك التاريخ أنك كنت سبباً في تفجير أعظم ثورة علي مر العصور، حين استخففت بمصير شعب واستهنت بكرامة أمة. وسوف يبقي مشهد مثولك داخل قفص الاتهام يوم الثالث من أغسطس، مصدر إلهام للأمم المتحضرة، وعبرة للحكام، وعظة لكل انسان، وآية لقدرة المولي علي العباد. .. وكم أنت جبار أيها الرحيم .