أعرف أن ماجري الجمعة الماضية في ميدان التحرير قد أصاب كثيرين بالقلق تجاه مستقبل الحكم في مصر. وظني أنهم بدأوا في طرح تساؤلاتهم المشروعة بعد ما رأوه مثل: هل ستحكم مصر دينيا..وهل تخلصنا من الدولة الاستبدادية كي نستبدلها بالدينية..ثم هل خرج المصريون في 25يناير من أجل تطبيق احكام الشريعة الاسلامية أم أنهم رفعوا شعارا واضحا هو (حرية ..عدالة اجتماعية..خبز).. ثم ضد من رفعت الجماعات السلفية شعاراتها ولافتاتها في ميدان التحرير (اسلامية اسلامية).. وهل هناك تيار أو فصيل سياسي علي الطرف المقابل قد أعلن عن هوية أخري للدولة المصرية تصطدم مع الهوية الإسلامية-الفعلية- لمصر؟. اذا وضعت في اعتبارك أننا لم نمارس السياسة طوال ستين عاما وتحديدا منذ يوليو 52 عندما جري تأميم السياسة لصالح السلطة..ثم إذا قدرت أيضا أننا لم نعتد بعد علي ثقافة الإختلاف في الرأي..إذا قدرت ماسبق وأنت تتابع ماجري في ميدان التحرير من سيطرة الجماعات السلفية ورفع عدد كبير منهم لافتات دينية..فإن الهدوء سوف يعود اليك ثانية لأنك حينئذ سوف تضع ماجري في سياقه الطبيعي عندما تعرف أنه من حق كل فصيل سياسي التواجد في ميدان التحرير بالكثافة التي يريدها والتعبير عن قناعاته ورؤاه وأفكاره طالما ارتضينا ممارسة الديمقراطية والتي جوهرها اختلاف الآراء واحترام هذا الاختلاف..وإذا قدرت كل ماسبق فيجب أن تعرف أن ماجري الجمعة الماضية في الميدان قابل للتكرار في أي وقت..إنها ممارسة الحرية بعد طول غياب. في المقابل فإنه ينبغي لقادة جماعات الإسلام السياسي أن تعرف كذلك أن استعراض القوي وتعبئة الناس ليس من السياسة في شيء بل ربما أتي بنتائج عكسية لما يريدونه..لذا فإن تلك الجماعات مطالبة بمراجعة مايلي: 1-مصر دولة ذات فصائل سياسية متعددة وتاريخها السياسي شاهد علي ذلك وإذا كنا بصدد مجتمع يمتاز بهذا التنوع فإن السياسة التوافقية تكون هي الغالبة..أما سياسة الاقصاء والتخوين فسوف تورد الجميع التهلكة. 2-يجب أن يعي تيار الاسلام السياسي أنه جزء من الحياة السياسية المصرية وأحد فصائلها وأنه لن ينفرد بالساحة كما لايحق له - بمفرده- الادعاء بالحديث نيابة عن الشعب. 3-يجب أن يعرف قادة الجماعات السلفية أن عددا كبيرا من المواطنين يود أن يعرف الكثير عن أفكارهم وآرائهم وربما ساعد ذلك علي زيادة جماهيريتهم لكن أيضا وفي المقابل فإن مايفعله عدد من السلفيين في شوارع مصر منذ فبراير وحتي الآن يثير قدرا عاليا من المخاوف لدي قطاع كبير من الشعب..لذا فإن قادة الجماعات السلفية لديهم فرصة طيبة لتقييم ماجري وإعادة بث صورة جديدة وجيدة لهم لدي الرأي العام. قد أتفهم أن يجري رفع شعار (اسلامية اسلامية) عندما يطرح البعض أفكاره حول تغيير هوية الدولة المصرية لكن ذلك لم يحدث أصلا..كما أنه لايجرؤ أحد أن يفكر -مجرد تفكير- في طرح مثل هذا التصور فالثابت وعبر عصور طويلة أنه قد استقر في الوجدان السياسي والثقافي الشعبي أن هوية الدولة المصرية اسلامية.. كما أنه ورغم سقوط دستور 71 الذي ظل يحكمنا طيلة أربعة عقود.. كما أننا ونحن بصدد اعداد دستور جديد فإن المادة الثانية من دستور 71 التي تنص علي أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع فإنه بات من المعلوم للكافة أنه سوف يجري النص عليها كما هي في الدستور الجديد..وربما كانت تلك المادة هي الوحيدة التي سيجري نقلها من الدستور البائد الي الدستور الجديد. وقد فسر لي بعض المنتمين للجماعات السلفية ما فعلوه في ميدان التحرير علي النحو التالي: 1-أنهم رأوا مغالاة تيارات سياسية أخري في التعبير عن هوياتهم ومن ثم فإنهم أرادوا أيضا التعبير عن هوياتهم ليعرف الجميع حجمهم. 2-رأت الجماعات السلفية أن طرح فكرة المباديء الحاكمة للدستور هو تجسيد حي للديكتاتورية عندما يتولي شخص أو مجموعة أشخاص مكلفين ومعينين (غير منتخبين) إعداد تلك المباديء (دون استفتاء الشعب عليها) كما أنه يحمل مصادرة ترتيب الخطوات التي وافق عليها الشعب. الشاهد أن المصريين لم يعتادوا بعد ثقافة الاختلاف كما أن عددا كبيرا من الفصائل السياسية لاتزال في طور المراهقة السياسية لذا تبرز المشاهد المقلقة هنا أو هناك لكن المؤكد أن الممارسة الديمقراطية هي الضمانة الأكيدة للتصحيح.. فلا تنزعجوا.