ديننا دين الرحمة في أسمي معانيها، ونبينا نبي الرحمة، وقد أرسله ربه (عز وجل) رحمة للعالمين فقال سبحانه : »وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ » (الأنبياء : 107)، وقد قال (صلي الله عليه وسلم) : »الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا أَهْلَ الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ أَهْلُ السَّمَاءِ» (رواه الترمذي)، وقال (صلي الله عليه وسلم) : » مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ »(صحيح مسلم)، وقال (صلي الله عليه وسلم) : » لا تنزع الرَّحْمَة إلَّا من شقيٍّ » (رواه الترمذي). وهذه الرحمة تشمل الإنسان والحيوان والجماد، ومن باب الرحمة بالحيوان : ما ذكره نبينا (صلي الله عليه وسلم) بَيْنَما رَجُلٌ يَمْشِي فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَنَزَلَ بِئْرًا فَشَرِبَ مِنْهَا ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا هُوَ بِكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَي مِنْ الْعَطَشِ فَقَالَ لَقَدْ بَلَغَ هَذَا مِثْلُ الَّذِي بَلَغَ بِي فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ ثُمَّ رَقِيَ فَسَقَي الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِي الْبَهَائِمِ أَجْرًا قَالَ فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ » (رواه البخاري). ومنها : قصة الجمل الذي رأي النبي ( صلَّي الله عليه وسلم ) فحَنَّ وذَرَفَت عيناه، فأتاه النبيُّ ( صلَّي الله عليه وسلم ) فمسح ذِفْراه فسكتَ، فقال ( صلَّي الله عليه وسلم ) : (من ربُّ هذا الجملِ؟ لمن هذا الجملُ؟ )، فجاء فتًي من الأنصارِ، فقال: لي يا رسول الله، قال :» أفلا تتقي اللهَ في هذه البهيمةِ التي مَلَّككَ اللهُ إياها، فإنه شكا إليَّ أنك تُجِيعُه وتُدْئبه» (سنن أبي داود). ومنها تحذيره (صلي الله عليه وسلم) الشديد لنا من أذي الحيوان، حيث يقول (صلي الله عليه وسلم) : »عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّي مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ، لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا، وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ» »متفق عليه»، مع ملاحظة أن سبب دخول النار ليس قتلها ولا تعذيبها، إنما هو مجرد حبسها وإهمال أمرها. ولما رأي (صلي الله عليه وسلم) حُمَّرَةً (: بضم الحاء المهملة وتشديد الميم المفتوحة وقد يخفف طائر صغير كالعصفور ) قد نزعوا عنها فراخها، قال (صلي الله عليه وسلم): »مَنْ فَجَعَ هذهِ بولدِها ؟ رُدُّوا ولدَها إليها» (رواه أبو داود)، ورأي قَرْيَةَ نملٍ قد حرقها بعض الناس، فقال (صلي الله عليه وسلم ) : »من حَرَّقَ هذه؟ » قلنا: نحن، قال: »إنهُ لا ينبغِي أن يُعذَّبَ بالنار إلا رَبُّ النارِ» (سنن أبي داود)، وعن سهل بن الحنظلية (رضي الله عنه) قال :مر رسول الله (صلي الله عليه وسلم) ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال : » اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة » (سنن أبي داود)، والمعجمة أي التي لا تنطق ولا تستطيع أن تطالب بحقوقها، علي حد قول عنترة العبسي في وصف فرسه : لو كان يدري ما المحاورة اشتكي وَلَكانَ لو عَلِمْ الكَلامَ مُكَلِّمِي ويقول نبينا (صلي الله عليه وسلم) : »مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ إِلاَّ كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» (الصحيحين). ولم تقف رحمة النبي (صلي الله عليه وسلم) عند حدود الإنسان أو الحيوان، بل تعدت ذلك إلي الجماد، فقد كان (صلي الله عليه وسلم) يقول : » إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ » (رواه مسلم)، ولما ارتجف أُحُد يومًا قال (صلي الله عليه وسلم) : »اسْكُنْ أُحُدُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ»، وكان (صلي الله عليه وسلم) يقول : »أُحُدٌ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» (السنن الكبري)، ولما بني (صلي الله عليه وسلم) مسجده بالمدينة المنورة كان يتخذ من أحد جذوع النخل منبرًا، فلما صنعوا له منبرًا وصعد النبي (صلي الله عليه وسلم) عليه سمع أنين الجذع، فقال له (صلي الله عليه وسلم) : »اسكن، إن تشأ أغرسك في الجنة فيأكل منك الصالحون، وإن تشأ أن أعيدك رطبًا كما كنت» فاختار الآخرة علي الدنيا. وقد نهي نبينا (صلي الله عليه وسلم) أصحابه، ونهي كذلك الخلفاء الراشدون قادة جيوشهم أن يخربوا عامرًا، أو يهدموا بنيانًا إلا إذا تمترس به العدو، وألا يحرقوا زرعًا أو يقطعوا نخلا، فكل الكون مسبح لله (عز وجل)، يقول سبحانه وتعالي : »أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ» (النور : 41)، ويقول سبحانه : » تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا» (الإسراء : 44).