يمضي الرئيس الفرنسي »إيمانويل ماكرون» قدما في مسيرته الإصلاحية دون أن يولي اهتماما كبيرا للتراجع الملحوظ في شعبيته والاحتجاجات التي نظمتها النقابات العمالية المتشددة الأسبوع الماضي، وذلك قبل أن يكمل عامه الأول داخل الإليزيه. وتطمح الحكومة بإصلاحاتها المقترحة خفض العجز في الميزانية الفرنسية إلي أقل من 3 % من إجمالي الناتج المحلي، وهي النسبة التي حددها الاتحاد الأوروبي، وتنوي الانتهاء من خطتها المقترحة بحلول عام 2022. ويواجه الرئيس الفرنسي تحديات كثيرة لاستكمال مسيرته الإصلاحية، من بينها 7 نقابات قوية لن تتنازل عن المكاسب التي حققتها خلال عقود طويلة وتتهمه بالسعي للقضاء علي دولة الرفاهية ونسف الوظائف العمومية. إذ حشدت هذه النقابات مؤخرا أعدادا كبيرة وصلت إلي 500 ألف شخص في أكثر من 150 مظاهرة ودعت إلي موجة إضرابات متتالية بدءا من أبريل في عدة قطاعات احتجاجا علي الإصلاحات الخاصة بقانون العمل والضمان الاجتماعي، في محاولة لإجبار الرئيس علي التراجع عن إجراءات التقشف. وأضرب عن العمل أعداد كبيرة من العاملين في القطاع العام اعتراضا علي خطط ماكرون بخفض عدد العاملين وتطبيق نظام الأجر وفقا للأداء. وقد شهد قطاع النقل في فرنسا إضرابا واسعا أدي إلي إصابة الكثير من المرافق الحيوية بالشلل، احتجاجا علي التعديلات الخاصة بالوضع القانوني لعمال السكك الحديدية التي تنوي الحكومة تحويلها إلي شركة مساهمة والتخلي عن وضع الحماية الذي يوفره القطاع بالنسبة للموظفين الجدد. كما وجهت اتحادات عمال النقل تحذيرا للرئيس ماكرون للتراجع عن خطته الإصلاحية والتي تري أنها غير عادلة وربما تؤدي إلي فقد أكثر من 120 ألف شخص لوظائفهم بحلول عام 2022، فهي تقلل من الحماية الاجتماعية والاقتصادية الممنوحة لهم، كونها تسمح لأرباب العمل بطرد الموظفين لديهم وفق شروط خاصة يقرها القانون الجديد. كما أثار ارتفاع ضريبة الحماية الاجتماعية، المفروضة علي الطبقة المتوسطة وأصحاب المعاشات، الذي كان ماكرون يحظي بشعبية بين أفرادها، استياء شريحة واسعة من المواطنين. وهذه الزيادة تشمل نحو 60 % من المتقاعدين، أي ما يعادل 8 ملايين شخص والذين سيتكبدون خسارة بواقع 408 يورو سنويا بالنسبة لمن يتقاضون شهريا 2000 يورو. وعلي مدار 20 عاما لم يتمكن أي رئيس فرنسي من إجراء إصلاحات اقتصادية خوفا من موجة الاحتجاجات التي تتفجر كلما أثير هذا الموضوع. ففي عام 1995، حاول رئيس الوزراء المحافظ جاك شيراك تعديل أحكام المعاشات التقاعدية لفرنسا وتسبب في إضراب عام أدي إلي شل البلاد، كما حاول الرئيس الاشتراكي السابق »فرانسوا أولاند» تعديل قانون العمل لكنه تراجع أيضا في مواجهة الاحتجاجات العنيفة. ويعرف ماكرون التاريخ جيدا، حيث قال في أغسطس الماضي »فرنسا ليست دولة قابلة للإصلاح. لقد حاول الكثيرون ولم ينجحوا لأن الفرنسيين يكرهون الإصلاح »، لكنه أصر علي معركة إحداث تحول عميق في البلاد. علما بأن معدلات عدم المساواة في الدخل ومعدلات الفقر في فرنسا أقل عنها في بريطانيا وألمانيا، وما تعاني منه البلاد هو البطالة الجماعية التي امتدت لعقود طويلة تصل الآن إلي حوالي 21٪ بين الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عامًا. ففي الوقت الذي تري فيه النقابات أن قانون العمل يحرمها من حقوق ناضلت من أجلها كثيرا، تري الحكومة القانون ضروريا لإنعاش الاقتصاد والقضاء علي البطالة. وقال رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب إنه ليس لدي الحكومة أي هواجس بشأن إجراء تغييرات في القطاع العام حتي إذا واجهت مقاومة. ومع ذلك فماكرون متهم بانه »رئيس الأغنياء» التي التصقت به، بعد التصويت علي إصلاح ضريبة الثروة التي خففت بشكل كبير ما يدفعه الأثرياء ويعتزم ماكرون تصحيح هذه الصورة مع إلغاء ضريبة السكن عن 80% من الأسر، وهي ضريبة يدفعها كل من يملك مسكنا، لكن أسلوب ماكرون في المقابل لا يساعده كثيرا علي تمرير إصلاحاته. فقد ندد ب الكسالي والحاسدين الذين يهاجمون الأثرياء. ووصف المتظاهرين إشاعة الفوضي بدلا من البحث عن عمل ولذلك يعتبره البعض لا يبالي بآلام الشعب ويتبع سياسات غير عادلة وهذا يسيء إليه. ويزيد شعور الفرنسيين بالسخط علي رئيسهم ما كشفه تحقيق صحفي نشرته مجلة »لوبوان» أن الرئيس الفرنسي الشاب أنفق 26 ألف يورو علي المكياج خلال الأشهر الثلاثة الأولي من ولايته، في تناقض عن اجراءات التقشف التي ينتوي تطبيقها. ولذلك تراجعت شعبية الرئيس الفرنسي إلي أدني مستوي لها منذ انتخابه مايو الماضي وصلت إلي 40 %. وأظهرت نتائج استطلاع أجراها معهد »ألاب» أن 74 % من الفرنسيين يجدون أنها »غير عادلة». و بالرغم من الاحتجاجات الاجتماعية التي تشهدها البلاد والتراجع الملحوظ في شعبية ماكرون إلا أن الرئيس يمضي بخطي سريعة في مسيرته الإصلاحية ويستعد لتطبيق جزء جديد من تعهداته الرئاسية دون أن يعبأ لمعارضيه. ويري المراقبون أن أسلوب ماكرون يعتمد علي المضي بوتيرة سريعة علي كافة الجبهات، يمكنه من تحقيق أهدافه الإصلاحية دون توقف، وهو أمر لم ينجح في تحقيقه الرؤساء السابقون. في الوقت نفسه فإن المناخ السياسي الراهن في فرنسا يسهل علي ماكرون استكمال مسيرته الإصلاحية بنجاح، في غياب معارضة قوية يمكنها أن تتصدي لسياسات الرئيس وتشكل جبهة قوية أمامه فالأحزاب التقليدية من اليمين واليمين المتطرف واليسار أصابها حالة من الوهن والانقسام بعد الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأخيرة ولم تعد قادرة علي حشد الجماهير وكسب ثقتهم. ومع أن الوقت لا يزال مبكرا للحكم علي ماكرون الذي لم يمض علي وصوله لقصر الاليزيه إلا نحو تسعة أشهر، إلا أنه يواجه - ظاهرة رفض شعبي - مماثلة لتلك التي شهدتها رئاسة فترة حكم الرئيس اليميني السابق نيكولا ساركوزي بدأت تتبلور. ورغم ذلك فإن ماكرون مصمم علي المضي قدما في خطته الإصلاحية، مما جعل المراقبين يقولون إنه يفكر منذ الآن في إعادة انتخابه عام 2022.