عندما اقتربنا من ميدان تايمز سكوير بنيويورك انتابتنا حيرة، لم يكن هناك ما يدل علي أي اشارة لتوت عنخ آمون، أو وجود معرض عنه، توقف صديقي الفنان أحمد مرسي الشاعر والرسام المقيم في المدينة منذ أربعين عاما.. معظم زياراتي إلي المتاحف هنا برفقته، ليس لأنه صاحب حميم وإنسان رائع، إنما لخبرته ورؤيته الفنية، حديثي عنه يطول ولكن في مجال آخر، أخيرا لمحت اعلانا يحمل وجه الدكتور زاهي حواس بقبعته الشهيرة التي أصبحت أيقونة اعلامية، عالمية، ولو أنه وظف شهرته تلك في خدمة الآثار المصرية لعاد ذلك بخير كثير، لكنه وظف الآثار المصرية لخدمة زاهي حواس ولا غير، الآثار أقدم منه بآلاف السنوات ومع ذلك فإن قبعة زاهي التي يحرص علي ارتدائها حتي في الدهاليز المظلمة والمقابر المعتمة، رغم انها قبعة رعاة بقر لكنها أشهر من قناع توت عنخ آمون، الملك توت لا يتكلم، لكن ينوب عنه زاهي حواس، الهرم صامت وخوفو غائب، غير أن زاهي يحكي ويقص، وقد أتقن اسلوب الحكواتي المصري، فهو يحكي قصصاً عن التاريخ مصحوبة بالتمثيل، بل قام بتمثيل دور حقيقي في احد الأفلام، عرف كيف ينفذ إلي أفئدة الناس علي نطاق واسع مستخدما امكانيات عصر الصورة، التليفزيون، الانترنت، ولأنه ذكي منع جميع الأثريين من الظهور في أي جهاز اعلامي، حتي أساتذته لا يعرفهم أحد، ومنهم عالم كبير، غزير العلم، طلي الحجة، قادر علي الحكي، أعني الدكتور علي رضوان، وعالم آخر هو الدكتور جاب الله، ولكن لا وجود لهما ولا أثر، أما شباب الأثريين فلا وجود لهم ولا لجهودهم واكتشافاتهم، وعملهم في الرمال والأتربة والصحاري، من خلال قنوات ديسكفري والناشيونال جغرافيك وهيستوري »التاريخ« وعبر شبكة من العلاقات مع المؤسسات العلمية الاعلامية، ومن خلال موقعه الوظيفي الذي استثمره جيدا منذ أن كان مديرا لمنطقة الهرم، صعد نجم الدكتور زاهي وشيئا فشيئا أصبح هو ممثل آثار مصر كلها، واختزلها في شخصه، لا يتحدث عنها إلا هو، والأخطر، أنه المتحكم فيها تماما. لولا صورة زاهي الضخمة وقبعته لما عرفت الطريق إلي المعرض. بدأت صورة الملك توت عنخ آمون في الظهور متوارية إلي جانب صورة زاهي، وفي جميع المعارض التي تقام في الخارج فهي نفس الوضع، وآخرها معرض سيشهد فضيحة مدوية يوم الجمعة المقبل وقد أشرت إليها في الاخبار أول أمس، حيث يفتتح وزير الدولة لآثار مصر متحفا للآثار المقلدة في بروكسل بعد غد الجمعة، وهذا المتحف يضم مجموعات مقلدة باتقان بالغ لآثار توت عنخ آمون، أعدها فنان مصري، ويقول الخبراء أن التقليد متقن إلي درجة مذهلة، وقد جني المنظمون مكاسب هائلة من ورائه لم يعد علي مصر منها مليما واحدا، الكارثة هنا هي تشجيع مثل هذه النوعية من المعارض، وسوف تنتشر وتطغي علي الأصل الذي لن يحضر لمشاهدته هؤلاء الملايين الذين يترددون علي المعارض التي تقدم المقلد سيمنحهم وهم المشاهدة، أما ظهور وزير الدولة للآثار في مصر فيمنح هذه المعارض المشبوهة، مصداقية ومشروعية، أعرف فنانا موهوبا في الأقصر تستدعيه الشرطة بين الحين والآخر لأنه قام بنحت تمثال مقلد لآخر أصلي، فكيف يذهب وزير الدولة للآثار، ويحاضر في المتحف بعد غد الجمعة، ويوقع كتبه، الملاحظتان الأساسيتان علي هذا المعرض من خلال الموقع المنشور علي الانترنت، ان سعر تذكرة محاضرة زاهي من ستة عشر إلي ستة وعشرين ونصف يورو، بينما المعرض نفسه خمسة فقط، لماذا هذا الفرق الكبير؟ طبعا الملاحظة الأخري تتعلق بالذات المتضخمة لوزير الآثار المصري، في الموقع عرض فيديو يعلن عن محاضرة زاهي، تملأ الشاشة ملامح وجهه وقبعته وفي الخلفية توت عنخ آمون تابع زاهي الأمين، بدأت الصور في الشارع الجانبي المتفرع من ميدان تايمز سكوير تتكرر، زاهي أولا وإلي جواره توت، الشارع ضيق، كله متاجر للملابس والمعدات المنزلية، ومسارح صغيرة للهواة، فلتتخيل معرضا نادرا للآثار أقيم في شارع عبدالعزيز بالقاهرة أو درب البرابرة، المكان الذي تعرض فيه الآثار يجب ان يليق بها، الجهة المنظمة ليست علمية، إنما شركة تجارية »ديسكفري« علي الباب كان في انتظارنا مندوبة المجلس الأعلي للآثار المرافقة للمعرض، وأحد العاملين بالشركة، أمرهما زاهي باستقبالنا، وكان قد عرف مني خلال حوار هاتفي أنني سوف أزور المعرض، الحق أبدي اهتماما، وقال انني سوف أري معرضا ليس له مثيل، وبالفعل جري ذلك.. معرض نادر وخطير واضح أن المكان ليس مناسبا لإقامة معرض عن الآثار، المبني قديم، كان مقرا لجريدة النيويورك تايمز في القرن الماضي، والآن ملك لشركة ديسكفري التي تدير المعرض، الحقيقة ان سيناريو العرض جديد، نقف أمام باب مغلق يشبه أبواب الفراعنة، ثم نسمع صوت عمر الشريف الذي يتحدث عن الملك توت، وبعد ان يصمت يفتح الباب ونمر من خلاله، وعندما ينتهي دخول المجموعة يغلق الباب وتبدأ الجولة، أول قطعة كانت قارب خشبي من أجمل مايكون وللقوارب في الفن المصري القديم منزلة رمزية عميقة، انها رمز للانتقال، للزمن الذي يمثل جوهر الحضارة المصرية القديمة. القسم الأول يركز علي اخناتون وحضارة تل العمارنة، والقطع المعروضة سبق عرضها في البحرين ورأيتها هناك، لفت نظري ندرتها، وأنها من صميم أصول المتحف المصري، وأذكر ان المرافق للآثار أخبرني ان هذه الآثار سوف تخرج في جولة عبر العالم وتعود بعد احدي عشرة سنة إلي مصر، مازال ذهاب هذه الآثار إلي البحرين علامة استفهام، إذ لا تلقي الآثار المصرية اهتماما في البلاد العربية، لاحظت هذا في البحرين من خلال خلو المعرض تقريبا من الزوار وقد أمضيت فيه أكثر من أربع ساعات، مجموعة نادرة من آثار العمارنة، ثم مجموعة منتقاة من آثار مقبرة هامة في المتحف المصري، أعني مقبرة يويا، وقد عض الحزن قلبي وانا أري القناع النادر لسيدة مصرية اعتبره ذروة في فن البورتريه من مقبرة يويا، ذات يوم سألت أحد علماء الآثار الأجانب عن تأثير الحركة علي قطع الآثار النادرة، الفك والتركيب، الوضع في الصناديق، ثم الطيران وما تتعرض له من ضغوط أثناء السفر، أجابني قائلا إن المخاطر قائمة، وفي الأغلب الأعم تتأثر القطع. معرض توت عنخ آمون هذا طاف أوروبا، بدأ من بازل السويسرية عام 4002، يضم