في ملهي ليلي مات الأول، في المسجد مات الثاني، الأول دخل لينصحهم، يعذرهم وينذرهم ويهديهم، والثاني دخل ليسرق الأحذية، فراح ينافقهم ويخاتلهم ويلهيهم، ولحكمة له سبحانه فقد قبض إليه الإثنين كلاً علي ما كان عليه ليبلوكم أيكم أحسن عملا، لهذا لست أنا ولا أنت من يحكم بالجنة والنار، وأن هذا قديس وذاك سارق، وهذا وطني والآخر مارق، إذ ليس لنا إلا الظاهر، وقد يكون خادعاً ليس بصادق، فمن الحمق أن تحكم علي أحد من ظاهر ما تراه منه أو ما يحكي لك غيرك عنه، فقد يكون في حياته أمور أخري لو علمتها لتغيّر حكمك عليه، وفي حكايتي سر مقولتي: »عاش رسّام عجوز في مدينة صغيرة يرسم لوحاته الجميلة ويبيعها لزواره وقاصديه من كل ناحية، وفي يوم من الأيام أتاه فقير من أهل القرية وقال له: أنت تكسب مالًا كثيرًا من أعمالك، فلماذا لا تساعد فقراء القرية؟ ألا تنظر جزار القرية الذي لا يملك مالًا كثيرًا ومع ذلك يوزّع علي الفقراء كل يوم لحوماً مجّانية، وخبّاز القرية برغم أنه رجل فقير ذو عيال إلا أنه يعطي الفقراء خبزاً مجانياً كل يوم. ابتسم الرسام في هدوء ولم يرد عليه. خرج الفقير منزعجاً من عند الرسّام وأشاع في القرية بأنّ الرسام ثريٌ جداً يكتنز الأموال ولكنّه بخيلٌ لا يساعد الفقراء أو يحنو عليهم، فنقم عليه أهل القرية وقاطعوه وهجروه. بعد مدّة مرض الرسّام العجوز ولم يعره أحدٌ من أبناء القرية اهتمامًا فمات وحيداً. مرّت الأيّام ولاحظ أهل القرية بأنّ الجزار لم يعد يرسل للفقراء لحمًا مجّانيًا، وكذلك الخباز الطيب المحسن ما عاد يمنح الفقراء خبزاً مجانياً برغم توافدهم عليه ورجائهم له، وأمام إلحاح الناس عن سبب توقّف الجزار والخباز عن العطايا والإحسان، قالا : بأنّ الرسّام العجوز الذي كان يعطينا كل شهر مبلغاً من المال لنعطي الفقراء اللحم والخبز قد مات فتوقّفنا إذ لا حيلة لنا في رزق ولا شفاعة لنا في موت». وكما تبادلها أصدقاؤنا علي »الواتس» فقد انتهت الحكاية ولم تنته بعد حكمتها. ماذا أريد أن أقول؟ وإجابتي ببساطة: قد يسيء الناس بك أو بغيرك الظنون، وقد يحسبك آخرون أطهر من ماء الغمام، ولن ينفعك هؤلاء، ولن يضرك أولئك إذ المهم حقيقتك كما يعلمها الله عنك، وقد يكشف لهم الله الحقيقة ذات يوم، وقد يسرها في علمه لحكمة عنده أنت لا تعرفها، فالله وحده علام الغيوب، ماض فينا حكمه، عدل فينا قضاؤه وهو بصير بالعباد. هل تريد أن تسحب هذا إلي عالم السياسة؟ لا أنصحك، فقد ساد ذلك العالم التضييق والالتباس وراح ينضح بالحمق والجهل الذي يزداد التماعاً بالسطحية والغباء. فالسياسة حين تخاصم العقل والوعي ومقتضيات الأمور تصبح ضرباً من مقاصد الحيرة والمغامرة للاعبين والسلطة التي تتحكم وتتغول وتصادر المجال العام، وهي حين تخاصم لغة العصر ومتطلباته في ملعب ديمقراطي مفتوح يسع طموح الجماهير ويلبي تطلعاتها تصبح مسخاً لا قيمة له أو قحطاً كما أرض يباب، وعندها يصبح الإعلام بديلاً باهتاً للسياسة بلا قيمة إلا الصراخ والكلام الفارغ من كل معني فيستحيل أمام ناظرينا بلياتشو ما عاد يضحك أحداً، خصوصاً وأنه يتفنن في اتحافنا كل مساء بحكايا »أمنا الغولة» و»أبو رجل مسلوخة»، ويوزع علينا كل مساء قائمته فيمن هو وطني ومن هو مارق، ويعيد ويزيد عن أولئك الذين يحاولون إسقاط الدولة، لكأنه لا يعرف أنها أقدم دولة في التاريخ، وأنها الدولة المستمرة بغير انقطاع وقد استعصت علي كل المستعمرين، وظلت محتفظة بأرضها وحدودها ثابتة طوال تاريخها وحتي عهد قريب. إن ما يقدمه إعلامنا لامع الغباء لهو دليل علي مفارقته لكل معطيات العصر وضرورات العقل وتجليات المعرفة، وهو نموذج سيئ لتجريف السياسة، وهو بما يقدمه من أحكام مسبقة علي المواقف والشخوص ومجريات الأحداث بدا كما أحمق راح يوزع صكوك الغفران وسندات الإدانة علي خلق الله، فأدخل ذلك جنة الوطنية وألقي بهذا في نار الخيانة، فانصرف الناس عنه إلي من عداه وبات هو نفسه كمن مات في المسجد وقد دخله بقصد سرقة الأحذية لا الصلاة. يا سادة، لا تغتروا بما يقول ويفعل بارونات الإعلام فهم نجوم من ورق، ولطالما تربحوا وأكلوا علي موائد كل سلطة وكل نظام، وإن حاولوا إيهامك بغير ذلك، فعليك أن تنظر فيما يمليه عليك ضميرك نحو المجتمع والناس، ولا تتسرع في اتخاذ المواقف وإصدار الأحكام، لا تحكم بعين المشاهدة، واحتكم إلي ضمير المطلع علي حكمة الأشياء فوحده المنصف من لا تجرفه الأقوال بعيداً عن حقائق الجد والفعل والنضال.