سُر خاطري حين علمت أن الأزهر الشريف نظم لقاءات لأفواج متعاقبة من شباب الثورة في مسجد السلطان حسن بالقلعة للحوار حول دور مصر الإسلامي، ووسطية الأزهر، وتعميق ثقافة الحوار، وفقه الاعتراف بالاختلاف، مع إقرار السعي لاكتشاف المشتركات والقواسم بين أبناء الأمة الواحدة. كان مبعث سعادتي أولاً هو اكتشاف الأزهر الشريف لضرورة الالتقاء مع الشباب، وخلق جسر من الصلة بهم، ثم كان ثانياً بسبب اختيار مكان اللقاء وأعني به مسجد السلطان حسن بن الناصر محمد بن قلاوون، إذ يشي المكان بزحمة دلالات تدور كلها في مربع الحرية والتنوع، والتعايش والحوار. بدأ بناء جامع ومدرسة السلطان حسن عام 6531 ميلادية، واكتمل بعد ذلك بسنوات سبع في 3631، ولقي السلطان حتفه مقتولاً قبيل انتهاء البناء، ولم يُعثر علي جثمانه، ومن ثم لم يدفن في الضريح الذي بناه في المسجد خصيصاً، وإن شهد الضريح دفن ولديه فيما بعد. وجمع ذلك المسجد المملوكي بين ضخامة البناء، وجلال الهندسة، وأذكر حين زرته للمرة الأولي طفلاً مع زملاء مدرستي أن رفعنا رؤوسنا جميعاً إلي فوق لنستطلع جدره شاهقة العلو، فشعرنا وكأن سماءنا مسقوفة من فرط ضخامة وارتفاع مبانيه! وأنشئ هذا المسجد علي نظام المدارس ذات التخطيط المتعامد، إذ يستطرق الإنسان من المدخل الرئيسي إلي طرقة توصل إلي صحن مكشوف من أهم إيواناته: »إيوان القبلة«، وإلي جواره أربع مدارس متجاورة لتعليم المذاهب الأربعة الإسلامية. ............ يعلم ذلك المكان العبقري من شاء أن يتعلم أن مصر هي الحضن الذي اتسع للمذاهب: المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي جميعاً، ومصر »مبكرة« استوعبت فاهمة قيمة تلك التبادلية النشطة التي يمكن أن تنشأ بين معتنقي تلك المذاهب، وهي تبادلية عنوانها: »ثقافة الحوار«، ثم إنها أدركت باقتناع عميق معني مجاورة الاختلاف، من دون تضاغط، أو زق، أو إنكار، أو إزاحة. الحوار والحرية معنيان كبيران يعلمهما المكان لرواده بمجرد التلامس مع تاريخه وحكاياه. وحين زار الرئيس الأمريكي باراك أوباما مصر لتوجيه خطابه إلي العالم الإسلامي من جامعة القاهرة، ومر بمسجد السلطان حسن، وتجول في صحنه مشدوهاً مبهوراً بعمارته الرائعة، وتنوع زخارفه ودقة صناعتها كان الخاطر الذي احتل رأسي وقتها هو ضرورة تلقين مغزي ذلك التركيب الثقافي والعلمي للمسجد والمدرسة الذي شرحه أحد الخبراء لأوباما للنشء والشباب في مصر، وأعني: »التنوع والاختلاف والحرية«. وربما لم أسترجع ذلك الانطباع، إلا حين علمت بزيارة أفواج شباب الثورة للمسجد، والحوارات التي دارت معهم في صحنه التاريخي البديع. مصر لم تكتف باحتضان المذاهب الأربعة فحسب وإنما راكمت عليهم ما يكمل منظومة الفقه فيها علي نحو ليس له شبيه، سواء بإضافة الاثني عشرية من إيران، أو الزيدية من اليمن، أو بالأباضية من عُمان، أو الجعفرية من العراق. يعني بلا تعصب لرأي، أو تشنج لفكرة، عرفت مصر ذلك التعايش الجميل، والحوار الأجمل بين مذاهب الإسلام، مقدمة أنموذجها الفريد الذي ظللته أشعرية الإمام أبو موسي الأشعري، التي لا »تُكفر« مسلماً أبداً، مادام لم يجحد واحدة مما دخل به الإسلام: »شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله الصلاة الزكاة الصوم وحج بيت الله لمن استطاع إليه سبيلاً«. يعني نحن بلد مؤمن بالحوار والاختلاف والحرية والتنوع، ولا نتورط في تكفير مسلم . ومنذ اندلاع أحداث يناير في مصر، كنت أراقب باهتمام وحنو بعض ما يعتري الشباب في حركتهم ضافية الحيوية، فأجد فراغات كبيرة تحتاج لأن يملأها ذلك الشباب علي نحو صحيح، وتتعلق بنفس القيم التي يشعها مكان كمسجد ومدرسة السلطان حسن، وأعني مرة أخري الحوار، وفقه الاختلاف والتنوع، والاختيار الحر بين بدائل، وعدم الخضوع لإملاءات سلطة، أو فرد، أو طبقة، أو جماعة مهما ادعت إلتحافها بغطاءات »الشرعية الدستورية« أو »الشرعية الثورية«. إذ دفعت الحمية أحياناً إلي تجاهل بعض هاتيك القيم، ولكن الشباب ينبغي بمرور الوقت أن يدرك أهميتها له، وللمجتمع، ولبناء الدولة. نحن محتاجون إلي إنهاء احتكار الثورة فلا تتم خصخصتها لصالح جماعة من المصريين دون الشعب كله، وذلك يحتاج إلي النقاش، ونبذ التشنج والانغلاق، ورفض سيادة روح الإملاء، أو منطق الاستعلاء. ونحن محتاجون إلي النقاش حتي داخل جماعة الثوار نفسها ولكن علي نحو يقدم لنا رؤية لها حد أقصي وحد أدني يمكن للمجتمع أن يناقشها ويتوافق مع بعض بنودها، أو معها كلها، أو يأخذ هوامش عليها، أو يرفضها، فالثورة محل إجماع وطني، ولكن ما تلاها بالقطع ليس محلاً لأي إجماع، وحتي حين التجأنا إلي أداة ديمقراطية لمعرفة رأي الناس وهي الاستفتاء، وجاءت نتيجته واضحة لا التباس فيها، وجدنا من يعترض علي تلك النتيجة تخديماً علي مصالحه أو فرصه في مستقبل سياسي. الاستفتاء يعني الاحتكام إلي رأي الناس مباشرة، بما يعنيه ذلك من ضرورة احترام النتائج، فإذا صادق الشعب بنعم، ينبغي أن نخضع بكل طيب خاطر لمترتبات تلك ال»نعم« وتداعياتها. هذا جزء من ثقافة الاختلاف التي تحسمها الأدوات الديمقراطية وليس التعصب لموقف أو رفض أجزاء من الديمقراطية »انتقائياً« إذا لم تجئ لنا بما نرغبه أو نريده. ونحن محتاجون إلي التمازج بين طوائف البلد لتأميم فرص احتكاك يشارف بنا عتبات خطر، ربما لا نستطيع تداركه، أو ملاشاة أضراره التي لا يمكن الإحاطة بها. ونحن محتاجون إلي تفاهمات حول معايير المناصرة والإدانة التي بدأت تأخذ صبغة شخصانية وغوغائية في كثير من الحالات. ونحن محتاجون إلي بناء تصور مشترك »للشعب كله وليس للنخبة المثقفة أو الطبقة الحاكمة أو الجماعة الثائرة« حول ما بعد المرحلة الانتقالية، لأن ما يليها يعني المستقبل، أما التعثر الحالي فيومئ إلي انتقامية من الماضي، أو هياج في الحاضر، أما المستقبل فهو بقول واحد متعلق بالبناء، والانتقال خطوة أو خطوات إلي قدام. محتاجون إلي بحث قضايا الاقتصاد والتنمية والتعليم، وتأسيس مفهوم جديد وديمقراطي للثقافة، ولدور المجتمع الأهلي وإسهامه في بناء الفرد والمجتمع، والتنمية بكل مفرداتها. محتاجون إلي توافق حول شكل المحاسبية البرلمانية، وحول حدود التماس والتقاطع بين سلطة الرئيس وسلطة البرلمان. محتاجون للالتئام، ولسنا محتاجين للإقصاء، فالبلد لم يعد ينقصه تمزيق أو تقسيم. محتاجون إلي استيعاب دروس التجاور، والاعتراف المتبادل التي يشيعها ويذيعها تاريخ مسجد ومدرسة السلطان حسن بين ظهراني الحياة المصرية جيلاً بعد جيل، وصولاً إلي الشباب الثائر، وقد ضمه صحن الجامع في حوارات مع رموز الأزهر ومفكريه وعلمائه. الحرية هي مصر، والاعتراف بالاختلاف هو مصر، والتنوع هو مصر، والتصالحية هي مصر، وغير تلك القيم ليس منا، ولا من الثقافة الوطنية التي كانت مدرسة السلطان حسن واحدة من رموزها الأكثر تجلياً.