سألني الأستاذ سعيد سنبل وقتها »هل مستنداتك سليمة»، أجبت بنعم. مر شهر أغسطس هذا العام ولم يحمل لي معه أخبارا سيئة مثل الأعوام السابقة، فقط ذكريات قديمة مؤلمة، تتواري في جنباتي خجلاً من الله سبحانه وتعالي في هذه الأيام العطرة العشر الأوائل من ذي الحجة، فتبقي ذكري لا يؤرقها الفرح باستقبال أيام العيد المبارك، ففيها السلوي وفيها العظة وفيها التفكر فيما وراء هذا الكون الفسيح، دعوني أحدثكم عن بعض ذكريات الدار العريقة، دار أخبار اليوم بما فيها من أحداث حلوة ومرة، الفرح والحزن يجمعنا، يأتي أغسطس ليذكرني برحيل أستاذنا الكبير الكاتب الصحفي المبدع والمرهف الحس والمشاعر سمير عبد القادر في 14 أغسطس 2014، الذي شرفت بالعمل معه منذ بداياتي الصحفية فكان لي خير معلم يعاملنا بروح الأب والأخ والصديق ويبث فينا روح المعرفة والقراءة الأرشيفية التي تثري كتاباتنا، وبعد وفاته بيومين رحل عنا عملاق من عمالقة دار أخبار اليوم، رسام الكاركاتير الشهير مصطفي حسين في 16 أغسطس 2014، الذي لي قصة معه سأرويها لاحقا، وقبلهما بعامين في 24 أغسطس عام 2012 رحل عنا العم الجليل عمنا وأستاذنا ومعلمنا ابن بلدي الكاتب الصحفي المبدع إسماعيل النقيب الذي لم يبخل عليَ منذ بدأت قدماي تطأ الدار العريقة بإي نصيحة ومتابعتي في عملي يُصبغ عليَ من لغته العربية فيزيدني حباً وعشقاً لها، وأشعاره ولهجته المتفردة فيزيدني حباً وعشقاً في تراب الوطن، وكان مكتبه الممتلئ عن آخره بالكتب القديمة والحديثة في الأدب والشعر والسياسة، ملجأي، أنهل من بين سطورها ما يزيدني ثراءً في اللغة. منذ كنت في المرحلة الإبتدائية في نهاية الستينيات، كنت أقتنص من مصروفي اليومي لشراء جريدة الأخبار، وقتها كانت جريدة الجمهورية الناطقة باسم ثورة يوليو هيَ الجريدة الرسمية لكثير من الأسر المصرية، أذهب إلي المدرسة وفي حقيبتي صحيفة الأخبار، أقتنص فترة الفسحة لقراءة عمود فكرة لرائد الصحافة المصرية والعربية مصطفي أمين، وكاريكاتير الفنان الرائع مصطفي حسين، والمقال القصير للمبدع الراحل أحمد رجب، وبعد التحاقي بالأخبار في نهاية عام 1983 كان أول ما فعلته أن طرقت أبواب هؤلاء العظام الراحلين، جلال الحمامصي، وجيه أبو ذكري، أحمد الجندي، حسن شاه، إسماعيل يونس، عبد الفتاح البارودي، سمير عبد القادر الذي شُرفت بالعمل معه، ووالده الكاتب والأديب محمد زكي عبد القادر الذي أصررت علي مقابلته وكان وقتها يمارس عمله من مكتبه بشارع عبد الخالق ثروت، وغيرهم من عمالقة ونجوم أخبار اليوم، أما الراحل مصطفي حسين فقد كان بالنسبة لي بعيد المنال، فقد كان لا يخرج من مكتبه المنغلق عليه مع الرائع أحمد رجب، وشجعني علي مقابلته أحد الأصدقاء فذهبت له ووجدته مُرحباً متواضعاً، ولم يرفض طلبي حين أتاني مجموعة من أصدقائي من شباب الفنانين التشكيليين يريدون رؤيته والجلوس معه وقام بتشجيعهم ونشر لوحاته الفنية الكاريكاتورية، واستمر تواصلي معه حتي وفاته، هكذا كانوا كباراً عظاماً، ولهذا ستظل سيرتهم عطرة إلي الأبد. رحمهم الله وأخلفنا عنهم خيراً من تلامذتهم الذين امتلأت بهم الدار وامتلأت بهم الصحف المصرية والعربية. قرأت خبر وفاتي هل قرأت يوماً خبر وفاتك..؟.. نعم أنا قرأته، في ذلك الشهر الذي يحمل لي معه الكثير من الأحزان، كان ذلك من عامين، في الثامن عشر من أغسطس 2014، وقبل أن أقرأه تلقي ابني السيناريست الشاب كثيراً من الاتصالات التليفونية لتعزيته، اندهش وطلبني مُسرعاً، قال لي.. ماما إنت كويسة، قلت خير، فأغلق الهاتف مسرعاً، تعجبت من الأمر، وكنت قد تلقيت قبلها العديد من الاتصالات الهاتفية للسؤال عن صحتي بطريقة غير معتادة، هاتفته لأستعلم منه عن سبب سؤاله وعدم إتمام المكالمة، بعد فترة أجابني قائلاً، كنت أبحث عن الخبر وأتحقق منه، أي خبر، قال ضاحكاً.. بعد الشر خبر وفاتك..! أأنت تمزح، هكذا عنفته، فقال، » إنه منشور اليوم في أكثر من موقع إلكتروني يبدو أنه تم الخلط بين اسمك واسم الفنانة نهاد رمزي التي تُوفيت صباح اليوم ولكن عنوان الخبر يشمل اسمك.. نهاد عرفة، ثم قال ضاحكاً.. يبدو أن كاتب الخبر يُحبك فاسمك عالق في ذهنه »، الآن فهمت سر الاتصالات الهاتفية التي انهالت عليَ منذ الصباح الباكر، فتحت الموقع وقرأت الخبر الذي تناقلته عن موقع الجريدة العريقة مواقع أخري كثيرة..» تشييع جثمان نهاد عرفة....» لم أُكمل القراءة، انتابتني حالة من الضحك غير مسبوقة، يااااااه..لقد قرأت خبر وفاتي وتشييع جثماني وأنا أحيا بكامل صحتي، أعقبتها حالة من التفكر والشرود في ملكوت الله، نظرت إلي السماء وقلت.. ماذا سيكون حالي الآن وأنا متوفاة وبين يدي الله، كيف سيكون الحساب، وهل سأري ما يحدث في الأرض، ثم انتابتني فكرة شيطانية، ماذا لو اختفيت، ماذا سيكتب عني أصدقائي، ماذا سيقول الناس عني، نحن الصحفيين لا يكتب أحد عنا إلا بعد مماتنا، اتصلت برئيس تحرير الموقع الذي عالج الأمر سريعاً وكتب اعتذاراً منشوراً داعياً لي بموفور الصحة والحياة المديدة، أعادتني هذه الواقعة إلي عشرين عاماً مضت حين تلقيت اتصالاً من أحد الصحفيين من أصدقائي بدولة الإمارات يسألني عن صحة خبر وفاة الموسيقي الفنان الراحل عبد الملك الخميسي لعلمه بمدي معرفتي وصداقتي به وأسرته، بالمناسبة هوَ نجل الفنان والشاعر والأديب الراحل عبد الرحمن الخميسي، ووالد النجمة الشابة لقاء الخميسي، وكان قد قضي سنوات طويلة من عمره بدولة الإمارات ويعرفه هناك القاصي والداني، قلت لصديقي أعتقد أن الخبر ليس صحيحاً فقد كنت أتحادث مع الخميسي وأسرته منذ يومين، ولكن صديقي الصحفي قال لي.. إن خبر وفاة الخميسي انتشر في كل زاوية في الإمارات، انتابني الرعب وقلت له أمهلني عدة دقائق، اتصلت فيها بالراحل عبد الملك الخميسي واستمرت المحادثة لربع الساعة ولم أقل له شيئاً عن خبر وفاته، بعدها بسنوات رحل عنا، رحمة الله عليه، وخير اللهم اجعله خير. التحقق من الخبر اسمحوا لي بسرد حدث وقع معي قريباً وآخر كان في بداية حياتي العملية، الأول كان منذ عدة شهور قريبة، حين كنت في زيارة لإحدي الجهات الحكومية والتف حولي عشرات الموظفين يبثون لي خبر الفساد المالي والإداري للمسئول الكبير والشهير جداً، وأطلعوني بالمشاهدة علي ما تسبب في ضياع أموال بالملايين علي البهرجة والفشخرة لهذا المسئول وأن الرقابة الإدارية لديها علم وجمعت التحريات عن هذا الفساد، طلبوا مني الكتابة في خبر أو موضوع أو مقال، طلبت منهم مستندات أو صور لها تثبت ذلك حتي لا يقع ما يُنشر تحت بند التشهير حتي ولو كان ذلك حقيقي، رفضوا خائفين من إخراجها فرفضت الكتابة رغم أن ذلك كان سيزيدني شهرة ويتحول ما أكتبه إلي حديث الساعة علي الألسنة. الحدث الثاني كان في بداية حياتي العملية في منتصف الثمانينيات حين جاء إلي مكتبي مسئول بإحدي الجامعات المصرية الإقليمية ومعه صور مستندات من الجهاز المركزي للمحاسبات تدين عشرات المسئولين بالجامعة عن سرقة أموال بالملايين تخص اتحاد طلاب الجامعة واستغلالها في السفريات الخارجية الخاصة وتجهيز أبنائهم وبناتهم، لم أخبر أساتذتي بالجريدة ورغم أنها صور لمستندات سليمة ذهبت بها لأحد معارفي الذي يعمل بالجهاز المركزي للمحاسبات لأتحقق من صحتها، فأكد لي صحتها وأطلعني علي الأصول، عدت لأكتب التحقيق الذي أثار عليً كل ما تتخيلونه بدءاً من التلميح بالرشوة حين علموا أن المستندات وصلتني حتي لا يُنشر التحقيق ومروراً بالتهديدات التي وصلت إلي حد التهديد بالقتل، وبعد النشر تم رفع قضايا التشهيرعلي الجريدة متمثلة في أستاذنا الراحل سعيد سنبل رحمة الله عليه وأنا بالسجن المشدد وتعويضاً بالملايين، سألني الأستاذ سعيد سنبل وقتها » هل مستنداتك سليمة »، أجبت بنعم، وكان قد وافق علي نشر التحقيق بدون أن يعلم أن معي مستندات لأنه في تلك الفترة كانوا يثقون فيما تعلمه الصحفي من مبادئ نشر أي موضوع أو كلمة اتهام تُكتب ضد أي مسئول أو شخص شهير، وقمت بتسليم مستنداتي للشئون القانونية بالجريدة، وكانت نتائج القضية تبرئتنا وحبس ثلاثة من المسئولين بالجامعة وإعفاء العشرات من مناصبهم مع تحويلهم لمجلس التأديب. تسألونني لماذا أكتب عن هذه الأحداث الآن، قد تكون هداية لكل الصحفيين من الشباب الذين لم يعاصروا الزمن الذهبي للصحافة المصرية، وقت أن كان التواصل بين أساتذة الصحافة والمتدربين بالصحف علي أشدُه، وكانت مهنة الصحافة هواية تمارس حتي الاحتراف وليست احترافاً. التواصل بين الأجيال ولأن الشئ بالشئ يُذكر، كان أستاذنا الراحل، الكاتب الصحفي الشهير سمير عبد القادر، مُعلمي ومُعلم الكثير من جيلي من الصحفيين والصحفيات يدربنا كيف يُكتب الخبر، وكيف نتحقق منه، وكيف يصاغ التحقيق الصحفي، وكيف يُكتب العنوان، وأهمية الصورة الصحفية وكيف أنها مكمل رئيسي وأساسي للخبر والتحقيق والحوار، عودنا أن نقرأ ونغوص في ملفات الأرشيف الصحفي، نقرأ مقالات وتحقيقات وحوارات مضت منذ سنوات ولكتاب رحلوا عن عالمنا، علمنَا أنه قبل لقاء أي مسئول أو شخصية شهيرة علينا أن نقرأ كل ما كُتب عنها في الصحافة المصرية والعربية وكأننا نعيش معها، لقد شهد الأرشيف الصحفي في صباي جلوسي علي المقعد الخشبي المخصص للبحث ساعات طوال، وتشهد أصابعي علي كم الأتربة التي عانيت منها حين أبحث في الملفات القديمة وكنت أخرج منه مسودة اليدين ومتربة الملابس، وعزائي كان فيما أحصل عليه من معرفة وما أقرأه في ملفات صاحبة الجلالة، هكذا علمني أستاذي سمير عبد القادر، وهكذا علمنا الكثير من مشاهير الكتاب في ذلك الوقت، إسماعيل النقيب، جلال الدين الحمامصي، أحمد الجندي، وجيه أبو ذكري، جلال عيسي، جمال الغيطاني، سعيد سنبل، عبد الفتاح البارودي، إسماعيل يونس، د.حسن رجب، ابتسام الهواري، نعم الباز، حُسن شاه، وجمال بدوي وعباس الطرابيلي قبل ذهابهما لتأسيس صحيفة الوفد، وغيرهم الكثير ممن عاصرناهم في العصر الذهبي للصحافة المصرية، كُل تعلمنا منهم، وجميعهم احتضنونا، أتذكر كيف كان أستاذنا الراحل سمير عبد القادر ينظم لقاء يوم الجمعة الأول من كل شهر في إحدي المنتجعات السياحية بيننا وبين الراحل الكبير موسي صبري أول رئيس تحرير عاصرته منذ بداياتي في الثمانينيات، يجتمع فيه معنا وعائلاتنا في جو ترفيهي بعيداً عن العمل، تقترب فيه المسافات بين شباب الصحفيين وشيوخ المهنة، وتزداد فيه أواصر الصداقة وروابط المحبة بين الجميع، وكيف كان يعقد لنا اللقاءات السنوية مع شيخ الصحافة المصرية ومؤسس دار أخبار اليوم الكاتب الكبير الراحل مصطفي أمين، في عيد الحب وفي يوم ميلاده، فنقترب منه ونتعلم منه، وكيف كان مصطفي أمين يطلق كلمة أستاذ وأستاذة لكل شاب وشابة مبتدئ بالدار حتي كدنا أن نتواري خجلاً، فيقول لنا، كل من يدخل الدار ويعمل في مهنة الصحافة هوَ أستاذ، هكذا كانوا يعاملوننا، يُنبتون بداخلنا العزة والإباء، يكبرون ويكَبروننا، فشب كل منا عاشقاً للمهنة، ينافس الكبار في الخبر والتحقيق والحوار والمقال، أحمد الله سبحانه وتعالي أنني كنت من آخر جيل عاصر كل هؤلاء العمالقة في العصر الذهبي للصحافة المصرية، وأشفق علي الأجيال الجديدة من شباب الصحفيين أنهم لم يعاصروا هؤلاء العمالقة ولا وقت للكثير منهم لقراءة أعمالهم والنهل من خبراتهم.