تعودت دائما منذ أن بدأت أكتب أن أتبني القضايا القومية الخاصة بالإصلاح الإداري في مصر وسياسات تنمية مواردنا البشرية أو فيما يختص بتنمية السلوكيات الحياتية للأفراد باعتباره من واقع دراستي وتخصصي الذي أعشقه. ولكن علي مدار الأيام السابقة وما شهدته مصر من فتنة طائفية أدار في ذهني ذكريات وذكريات عن أعز وأغلي أصدقاء عمري من الأقباط في مدرستي أو في فريق السباحة أو في الجامعة، أو بين زميلاتي أو طلابي في الجامعة المشهود دائما لهم بالتفوق والإخلاص والتفاني في العمل، لم أكن أتذكر أبدا في وقت السبعينيات أو الثمانينيات أن نسأل أو نهتم ونحن أطفال أو شباب إن كان أصدقاؤنا أو جيراننا من مني أو سامية أو إبراهيم مسلمين أم أقباطًا، أو أن ميس مادلين أو مستر تادرس مدرسي فصلنا مسلمون أم أقباط؛ لأننا كنا نتسابق ونتباري في تزيين فصلنا معهم قبل مجيء رمضان وعيد الفطر والكريسماس وعيد شم النسيم، فكلها أعياد مصرية لدينا ليس لها علاقة بأي دين، ونحيي علم مصر ونغني نشيد بلادي معا كل صباح، وذكرياتنا دائما واحدة وحلمنا واحد، فلا أنسي هذا المشهد الرائع المؤثر الذي أبكي ناظرة مدرستنا المعروف عنها الحزم والجدية ميس ليندا عندما كنت في الصف الثالث الابتدائي وكنت دائما أنا وزميلتي وأقرب صديقة لي في الفصل روزماري يوسف نتشابك أيدينا معا حتي عند الجلوس في الفصل، ونقتسم ما اشتريناه من كانتين المدرسة في الفسحة مع بعض، وفي مرة تأخرت مدرسة الفصل عن الحصة فتشاجر الأولاد مع بعضهم في هرج ومرج فدخلت المشرفة مسرعة ومتعصبة جدا، وفي لمحة منها لم تحدد من الذي سبب هذا الهرج فأمرت أن تعاقب بعض التلاميذ الذين اشتبهت فيهم بالوقوف ورفع أيدينا طول الحصة، وكنت أنا منهم بدون روزماري رغم أنني كنت هادئة جدا بطبعي ولا أجرؤ أو حتي أعرف التحدث بصوت عالٍ، فما كان من صديقتي روزماري إلا أن أجهشت بالبكاء؛ لإحساسها بمدي الظلم الذي وقع بي وصمَّمَت أن تشاركني في هذا التذنيب بالوقوف ورفع الأيدي برغم أوامر المشرفة بأن تجلس، فثارت روزماري ورفضت، فكان علي المشرفة أن صممت أن تصحبها لميس ليندا ناظرة المدرسة، فكان في عرف مدرستنا أن الأمر عندما يصل إلي ميس ليندا المعروف عنها بالحزم الشديد والجدية فمعناه إصدار حكم عسكري لا رجعة فيه، فما أن وصلت روزماري لمكتب ميس ليندا في جو من الرهبة حتي أجهشت في البكاء وأخذت تردد بهيستريا مطلقة " آية مظلمومة يا ميس ليندا، آية ما عملتش حاجة"، ولكن ميس ليندا بقلبها الكبير وضميرها الواعي وخبرتها التربوية الطويلة وبعد أن استمعت لأصل الموضوع في تقطعات من روزماري لالتقاط أنفاسها من شدة البكاء استشعرت مدي الألم الذي شعرت به روزماري نتيجة الظلم الذي وقع عليّ. أما حكاية "طنت سامية" أم جورج جارتنا التي تسكن الدور الأرضي بالحديقة في نفس عقار أبي وأمي في مصر الجديدة فهي كما لو أنها واحدة من العائلة، فدائما أسرار أمي وأخواتي معها، وتحمل همنا كما لو أنها أمي الثانية أو أخت أمي، فحتي عندما أغيب أسبوعًا عن زيارة أمي يوم الجمعة أنا وأولادي لظروف ما تكون "طنت سامية" في استقبالي وتكون أول من يعاتبني لأننا علي حد قولها: "بنوحشها أنا وأولادي"، وعندما توفي أخي الأصغر خالد وهو في الثلاثينيات من عمره رحمه الله فجأة منذ عام ووقع الخبر علينا كالصاعقة لنا جميعا كانت أول واحدة نرتمي في حضنها "طنت سامية"، بل ظلت لا تفارقنا وتفتح بيتها لاستقبال معزينا، وكانت المفارقة والدهشة للكل عندما توفي جورج ابنها وهو صديق أخي أيضا بعد وفاة أخي بيومين نتيجة سكتة قلبية، فأصبح حزننا وعزاؤنا واحدا في نفس العقار. أما عن "أنكل فكري مكرم" فهو صاحب والدي رحمهما الله منذ كانوا أطفالًا، وظل كذلك حتي بعد أن أصبح "أنكل فكري" رئيس وزراء مصر وقت الرئيس السادات، فلا يمكن أن أبحث عن والدي أنا وأخي رحمه الله ونحن متعبين بعد تمرين السباحة الشاق في نادي هليوبوليس إلا لنجده بصحبة "أنكل فكري"، وعندما كنا نذهب في مصيفنا بالعجمي كنا لا نستمتع إلا بصحبة عائلة "أنكل فكري" و"طنت وداد" زوجته. فأصدقائي من الأقباط لا حصر لهم، فعندما أكون في حالة نفسية متردية أتذكر تعليقات زميلنا بفريق السباحة حسام عازر والشهير بطرزان، أو هاني عزيز، وغيرهم، فدائما سنظل "حبايب" ويدًا واحدة طول العمر؛ لأننا عشنا سويا في وطن واحد، وشربنا من نيل واحد، وحُلْمنا أيضا واحد، فلا يمكن أن نفترق أو نختلف أبدا.