كثيراً ما أشعر بالحنين إلي قريتي.. تلك القرية التي عشت فيها أجمل أيام العمر.. طفلاً وصبياً.. وشاباً في مقتبل العمر.. ومازلت أذكر القرية بصفاء ليلها وتألق القمر في ليالي الصيف، وأتذكرها في أيام الشتاء حيث الأمطار وغياب القمر خلف السحب.. وأتذكر ما فيها من عادات وتقاليد وقيم.. صحيح أن هناك أشياء كثيرة تغيرت.. فالقرية تحولت إلي مدينة صغيرة مليئة بالصخب.. والمزارع الخضراء قد أخفتها المباني الأسمنتية.. ولكن الحنين إلي ماض مزروع في باطن الإنسان.. ومن منا يمكن أن ينسي رفاق الطفولة والصبا والشباب.. وملاعب القرية.. ومشاركة أهلها الأفراح والأحزان.. ورغم تغير ملامح الصورة، فالإنسان لا يمكنه أن ينسي مهبط رأسه، ومرتع طفولته وصباه. ومازلت أذكر ابن قريتي الأديب الكبير محمد عبدالحليم عبدالله الذي كتب أجمل قصصه ورواياته مستوحاة من الريف.. وكان يقول عن قريته: ليست أجمل القري ولكنني أحبها بأوحال الشتاء وظلمة الليل، وحفيف الشجر وصراخ الرياح.. والمخاوف من الحدائق وسط اللصوص، ونباح كلابها في الصيف الباهر، والقمر يريق أشعته علي كل سطح، وليالي الحصاد، وذكريات الحب، ورائحة الأرض المروية، والعشب العطن، وأنفاس الصبح التي تحمل رطوبة الندي، ورائحة الحقول، وكان يبرر حبه لقريته بقوله: أحبها لأسباب بسيطة.. أولها أنها وطني وفيها قبر أمي وأبي.. وفي ركن منها غرست ذات يوم شجرة لبلاب، وعشت عدة أصياف أتأمل أزهارها البنفسجية في لذة لا تغيب.. وكان يري.. رحمه الله.. أن قريته صورة من آلاف القري في مصر.. تعمل في صمت القناعة.. وصمت الليل، بل وصمت النهار ولكنه يحب صمتها وعملها. من الصعب أن ينسي الإنسان إذن أياما مرت به في واقع دنياه.. وكثيرا ما أتذكر قول أبي تمام.. ثم اقتضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام.. من أقوالهم: يحب المرء نبش أخيه حياً وينبشه ولو في الهالكينا شوقي