آخر مرة رأيت فيها الرئيس السابق حسني مبارك رأي العين، كانت في يوم 32 يناير الماضي، أي قبل الثورة بثمان وأربعين ساعة. المناسبة كانت الاحتفال بعيد الشرطة. أقيم الاحتفال هذا العام مبكرا.. قبل موعده بيومين. فلأول مرة اعتبر يوم 52 يناير اجازة رسمية، وكان مبارك لا يفضل ممارسة أي نشاط رسمي أو الخروج من مقر إقامته في أيام الاجازات. ولعل القدر شاء أن يكون هذا اليوم عطلة، ليخلو ميدان التحرير من طوابير السيارات، ويتكدس بصفوف بشر من جماعات غضب، ازدادت بمرور الأيام عددا ومطالب وتجمعات، حتي صارت جموع ثورة في كل مكان. في يوم الاحتفال.. كان مبارك يتصدر القائمة.. يجلس إلي طاولة مستطيلة وإلي يمينه ويساره أحمد نظيف وفتحي سرور وصفوت الشريف وحبيب العادلي (سبحان المعز المذل). كنت في الطرف الآخر من القاعة.. أجلس إلي مائدة مستديرة، وحولها يجلس صحفي آخر هو زميلي وصديقي حمدي رزق، وثلاثة من كبار قادة القوات المسلحة، واثنان من كبار رجال القضاء. للمفارقة.. صار العسكريون الثلاثة من أشهر الأعضاء بالمجلس الأعلي للقوات المسلحة الذي تسلم ادارة البلاد بعد تنحي (أو تنحية) مبارك عن الحكم بعد يوم الاحتفال بتسعة عشر يوما! وللمفارقة أيضا.. فإن أحد رجلي القضاء الاثنين، سوف يحقق مع مبارك خلال أيام، ويستجوبه في اتهامات، وربما يأمر مجددا بحبسه ثم محاكمته في قضية ثانية! أخذت أرقب مبارك، كان بادي الارهاق، أقل وزنا مما اعتدنا أن نراه، لكنه كعادته كان منفتح الشهية! غادر مبارك القاعة مسرعا، أفسح له زكريا عزمي ورجاله الطريق، حتي لا يتوقف كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات، لمصافحة من يهرول إليه من الحاضرين. بينما كان جمال مبارك واقفا في بهو يفضي إلي باب الخروج، يمسك ذقنه بيد ويلف الأخري حول صدره.. يرسم ابتسامة باهتة علي وجهه، ويطل بنظرة متعالية علي بعض المتحلقين حوله من رؤساء أحزاب القش. هؤلاء في معظمهم كانوا يتأهبون لنيل لقب مرشح رئاسة في مواجهة وريث فاز بالحكم، من قبل أن تجري الانتخابات!
بعدها.. لم أر مبارك إلا 3 مرات علي شاشة التليفزيون كما رأيناه جميعا. مرة ليل 82 يناير حين أعلن إقالة الحكومة، وكان خطابه متأخرا وقراراته لا تلبي الحد الأدني من المطالب. ومرة ثانية ليل الأول من فبراير حين أعلن عدم ترشحه لانتخابات الرئاسة المقبلة، وقال انه عاش علي أرض مصر وسوف يموت علي ترابها. كانت كلمته مؤثرة مست شغاف قلوب قطاع كبير من شعبنا العاطفي، لكن تأثيرها زال وانقلب سخطا ونارا في الأفئدة بعد موقعة الجمل في اليوم التالي. أما المرة الثالثة والأخيرة فكانت ليل يوم الخميس 01 فبراير.. حين ألقي خطابا، أعلن فيه عن تقدمه بطلب لتعديل 4 مواد من الدستور وإلغاء مادة، وعن تفويض اختصاصاته لنائبه عمر سليمان. كان الخطاب مطولا، مملا، وكان أوان تلك القرارات قد فات وتجاوزته الأحداث، وكان الشعب كله يسأله الرحيلا! غابت عنا صورة وصوت مبارك، إلا في لقطات مسجلة ببرامج تؤرخ لأحداث الثورة، لكن بعد شهرين من آخر ظهور له استمعنا إليه في كلمة صوتية مسجلة، بثتها قناة العربية، حاول مبارك أن يخاطب مشاعر المصريين، عندما أكد أنه لا يمتلك أي أرصدة مالية في بنوك خارجية، وانه لا يمتلك لا هو ولا أسرته أي عقارات خارج مصر. لكنه رغم اعترافه بأنه رئيس سابق تحدث بنبرة فوقية رئاسية أثارت خوفا وريبة أكثر مما استجلبت تعاطفا! في نفس اليوم.. أصدر د. عبدالمجيد محمود النائب العام قرارا باستدعاء الرئيس السابق ونجليه علاء وجمال للتحقيق.
كان قرار حبس مبارك 51 يوما علي ذمة التحقيقات متوقعا تبعا لسير الأحداث، ومع ذلك كان له وقع المفاجأة في الشارع المصري! حين صدر قرار الحبس تنازعتني مشاعر متناقضة، كأنها تركب لوح أمواج، يذرو بها إلي القمة، ويهوي بها في لحظة من حالق. شاهدت مبارك في مخيلتي كأنني أراه أمامي، علي سرير المستشفي، منهكا، تخترق الإبر عروقه وتلتف الأسلاك حول صدره وقدميه، تنقل إلي شاشات سوداء مؤشرات نبض قلبه المتباطئ وضغط دمه المنخفض، شاهدته أبيض الشعر إلا من بقايا أصباغ سوداء تزول، مغضن الوجنات، مهدم الجسد، محطم الفؤاد، كسير النفس، ذليلا، يعيش أسوأ الكوابيس وهو يقظان، يري أمام عينيه مجدا بناه يتقوض، وعارا يكلل اسمه الذي ظن أنه يتصدر عظماء الخالدين! كدت أميل إلي التعاطف معه.. وتداعي إلي ذهني مشهد جليل له، وهو يقف أمام الصاري في وادي طابا، يحمل بين ذراعيه العلم، بينما الموسيقي تصدح بنشيد بلادي، وقلت في نفسي ألا يكفيه هذا المشهد، ألا يمكن أن نعتبر العلم فوق ذراعيه، كفنا حمله إلي شعبه لنغفر له ما تقدم من خطاياه وما تأخر؟! خفق قلبي وأنا اقرأ في صالة تحرير الجريدة، أقواله في التحقيقات حين علم أن ابنيه رهينا الحبس. شعرت بقبضة تعتصر قلبي الموجوع أصلا، وأنا أطالع ما قاله للمحقق: »اتركوا أولادي.. وافعلوا بي ما شئتم«. أخذت نفسا عميقا، ووجدتني أقول لنفسي وكأنني أكلمه: لكننا كنا أولادك أيضاً.. وتركتنا لهم يفعلون بنا ما شاءوا! لم نسمعك تقول: اتركوا أولادي.. حين كان زوار الفجر يقتحمون المنازل، ويعتقلون معارضيك وسط دموع ذويهم وصراخ صغارهم. حين كانوا يأسرون أمهاتهم وزوجاتهم حتي يسلموا أنفسهم، وحين كانوا يعلقونهم كالذبائح ويتفننون في تعذيبهم حتي يعترفوا بما اقترفوا وبما لم يرتكبوا. لم نسمعك تقول: ارحموا أولادي.. حين كانت خيرات البلد حكرا علي أهلك وذويك وأعوانك ورجال أعمالك، وكان »أبناؤك« العاطلون يموتون في النعوش السابحة وهم يهاجرون إلي أوروبا بحثا عن لقمة عيش ضن بها حكمك. حين كانت مياه الشرب تروي ملاعب الجولف في منتجعات أصدقائك، ومياه المجاري يشربها مواطنوك. حين كانت أموال الشعب تنفق علي عمليات شد الوجوه وتبييض الأسنان وتدريم الأظافر، بينما »أولادك« يموتون من فشل أكباد وكلي، افترستها المياه الملوثة والأغذية الفاسدة، ورعت فيها مبيدات مسرطنة استوردها رجالك وتربحوا منها علي جثث أبنائك وبناتك. لم نسمعك تترحم علي ألف من أولادك غرقوا في »عبارة الموت«، لم تعلن الحداد عليهم.. إنما رحت إلي مقصورتك باستاد القاهرة تشاهد مباراة وتلوح لمتفرجين، وتركت رجالك يفتحون أبواب الهروب واسعة أمام قاتليهم. لم تقل: اتركوا أولادي.. حين أعدم العادلي ورجاله شباب مصر الثوار رميا بالرصاص وكأنهم كلاب ضالة. كدت أصدقك يارجل وأنت تنفي مسئوليتك عن اعطاء الأوامر باطلاق الرصاص الحي علي الشباب.. كدت أصدقك وأنت تقول ان العادلي قد خدعك.. لولا أني أعرف ماذا قلت وماذا طلبت من أصحاب الشرف الوطنيين الأحرار يوم 03 يناير! دموعك التي تذرفها سخية، لوعة علي ابنيك المحبوسين بتهم الرشوة واستغلال النفوذ والاستيلاء علي المال العام، لم نرها تطفر في عينيك ولو مجرد بريق يلمع، حزنا علي رحيل 058 شهيدا من شبابنا الثوار أو حسرة علي 0055 من أبنائنا، فقدوا أبصارهم وأطرافهم وأجزاء من أبدانهم وتشوهت وجوههم وأجسادهم برصاصات وشظايا وقنابل غاز أطلقها عليهم زبانيتك بلا شفقة أو رحمة! الآن تقول: إلا أولادي.. ونحن نقول لك: إلا دماء الشهداء. الآن تقول: افعلوا بي ما شئتم.. ونحن نقول: بل ما شاء القضاء.
أراك الآن كأنك أمامي مستلق علي سريرك، ترفع كفك في وهن، تطالع خطوطها وتقاطعاتها.. تتذكر يوما بعيدا، مر عليه نصف قرن أو أكثر.. كنت وقتها في السودان مع رفيق سلاح مصري تتسامر معه.. حين جاءكما عراف جنوبي.. يومها سلمت كفك إليه وأنت تسخر منه.. لكنه نظر إليك في دهشة وقال: إنك ستكون حاكم مصر.. حينئذ ذهبت سخريتك، وحل محلها الجد الشديد وأخذت تسأله عن المزيد، ثم نظرت إلي رفيقك، واستحلفته بألا يخبر أحدا لاخوفا علي مستقبلك بل علي حياتك! وحين توليت الحكم، جاءك رفيق السلاح مهنئا، وعندما ذكرك بالنبوءة، نهرته في غضب وأبعدته عنك حتي رحل! لست عرافا كي أنبئك عن خاتمتك، فلعلك الآن تتوقعها. غير أن بعضي يتمني أن تقتص منك العدالة وبعضي يدعو لك بالرحيل ليفصل بيننا وبينك الحَكم العَدل.