العبادة أيًا ما كانت.. صلاة.. صوم.. حج.. ليست عملاً جامدًا، بل هي في جوهرها عمل روحي، يدفع الإنسان إلي التأمل، يفجر بداخله طاقات للنجاح والأخلاق والإبداع وحب الله، فإذا لم يتحقق هذا الشرط ابتعدت عن الهدف الأساسي الذي من أجله فرضها الله علينا. ربنا الغني لن يزيد شيئًا بعبادتنا، ولن ينقص شيئًا لو لم نعبده، وهو القائل في الحديث القدسي: »يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أتقي قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا علي أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئًا». العبادة ليست مظهرًا فالعبادة ليست شكلاً أو مظهرًا، أو مجرد حركات تؤدي بطريقة آلية، بل الأصل فيها أن تحمل العديد من الرموز، لمعان عميقة، تبث بداخلنا معاني مؤثرة، للتواصل مع الله، تحرك بداخلنا قيم الخير والرحمة والجمال، وتدفعنا نحو النجاح والإبداع، وحينئذ ننتقل من عبادة الصور إلي عبادة المصور سبحانه، وعندها نفهم الدين بشكل أعمق، يدفعنا إلي آفاق لا نهائية لحب الله بلا ملل. عندما أطلق الله تعالي علي الكعبة اسم البيت في الآية »وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا»، كان لهذا الاسم رمزيته لدي كل مسلم.. هذا بيتك.. هذا عنوانك الدائم.. »مثابة»: تشتاق إليه ويوحشك.. »أمنًا»: يحميك ويأويك.. ولما أمر الله النبي بالتوجه في صلاته إلي المسجد الأقصي، في الوقت الذي كانت فيه مئات الأصنام علي الكعبة، ثم عاد ليأمره بالتوجه إلي بيت الله الحرام بمكة، كان الأمر أكبر من كونه مجرد مسألة جغرافية، فالكعبة توجه حياة، وليس مجرد اتجاه. بعدها كان النبي عند الكعبة، فأتي أناس من قريش يسألونه عن رجل ملك الشرق والغرب؟، إنه ذو القرنين الذي وردت قصته في سورة الكهف.. لماذا ذو القرنين؟ لأن العالم دائمًا بين رؤيتين للحياة: رؤية مادية ورؤية روحية.. حضارات مادية وحضارات روحية.. غرب مادي وشرق روحي.. ذو القرنين لأنه امتلك قرني الحضارة المادة والروح »حَتَّي إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ» (مغرب الشمس) »آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ» (مادة)، اخترع فصل الحديد عن النحاس »قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ» (روح). كأن الرمز: لن تنجحوا حتي تمتلكوا يا مسلمون قرني الحياة: المادة والروح.. في دلالة واضحة علي ارتباط العمل والإيمان. رمزية الصلاة علي سبيل المثال، لو تأملنا الصلاة التي نؤديها 5 مرات في اليوم، لوجدنا أنها تحمل الكثير من الرموز، بداية من الوضوء، فهو ليس مجرد نظافة بدنية، بل طهارة روحية قبل لقاء الله، تزيل ذنوبنا والغل والحقد والحسد من نفوسنا، لذلك النبي قال عن رمز الوضوء »إذا غسل يديه خرجت الذنوب من تحت أظافر يديه» هكذا يكون الوضوء علي الوضوء.. نور علي نور. عندما تتجه ناحية القبلة في الصلاة.. إياك أن تتوجه للقبلة بوجهك وقلبك، بينما روحك عكس الاتجاه، عندما ندخل إلي الصلاة نقول: الله أكبر..لماذا؟ إياك أن يكون هناك من هو أكبر من ربنا وأنت تتوجه إليه، فأنت في الصلاة مقبل علي الله.. الصلاة معراج الروح.. أطلق روحك لتخرج من الأرض وتصعد للسماء. في قراءتك للفاتحة، الله سبحانه يرد عليك الآن.. الحمد لله رب العالمين.. حمدني عبدي.. وهكذا.. الركوع رمز: لا يمكن أنزل برأسي هكذا لأحد إلا لك يالله.. ترفع رأسك وتقول سمع الله لمن حمده: رفعة الظهر هذه سر الحضارة.. باقي المخلوقات تمشي علي أربع.. ربنا ولك الحمد علي هذه النعمة...اسجد: أنت الآن قريب جدًا.. أنت من تراب: عاد الفرع إلي الأصل.. ادع فدعاؤك مستجاب.. تختم الصلاة بالتحيات: حيي ربنا.. اشكره علي اللقاء. سلم علي النبي كأنه أمامك.. سلم علي نفسك أنت نقي الآن.. انو السلام لكل الناس.. السلام علينا وعلي عباد الله الصالحين.. اشهد وارفع السبابة التي تكتب بها.. كأنك تشهد بكل أدوات الشهادة.. لسانك ويدك.. اخرج بالسلام: كأنك تعاهد الله علي أن تعطي السلام لكل الناس. هذه هي الرموز في الصلاة، فهلا تأملتها، لتؤديها علي هذا الوجه، وتكون دافعًا لك في الحياة.. العبادة مليئة بالرموز وليس لكل عبادة رمز واحد فقط، لذلك النبي كان يقول: »جعلت قرة عيني في الصلاة»، لأن فيها مئات المعاني اللانهائية، العبادة السطحية تنتهي وتجف والرموز نهر لا يجف.. العبادة ليست مقصودة لذاتها وإنما لما تحركه من رموز للعبادات. ولكن ماذا يحدث لو تحولت العبادة عندنا لتأمل الرموز: ننتقل من عبادة الصور إلي عبادة المصور سبحانه، ونفهم الدين بعمق أكبر.. آفاق لا نهائية لحب الله بلا ملل.. تصبح العبادة حية وليست صورة جامدة.. ترتقي في مستوي حبك لله.. هم درجات عند الله.. اقرأ وارتق.. أطلق قواك نحو النجاح والأخلاق وحب الله بالعيش برموز العبادة.. انتقل من الأشكال الجامدة إلي رموز تفتح لك آفاقا لا نهائية للوصول إلي الله. ابذل جهدك لتتأمل رموز الصلاة.. انتقل من الشكل السطحي الجامد لرموز لا نهائية من معان وأفكار إبداعية، هذا يجعل العبادة تحيي الحياة.. والأعظم أنه يوجد عقلية مبدعة متجددة محفزة لإيجاد آفاق جديدة في العبادة.. ويفتح نافذة العبادة علي الحياة، لأن هناك أناسا حولوا الدين لأشكال صارمة جامدة سطحية وعلموا الناس أن هذا هو الدين. إذن.. ما المطلوب؟ تأمل رموز العبادة يقضي علي السطحية والجمود وملل التقليد الأعمي في الصلة بالله.. تأمل رموز العبادة توجد عقلية مبدعة متحفزة لإيجاد آفاق جديدة في كل الحياة.. العبادة تحرك الحياة نحو الإبداع. لأن الرموز تجعلك متعدد الرؤي.