جاءت الحرية ، لكن لم يأت معها كتالوج الاستعمال ، كيف نتعامل مع عاصفة الحرية التي هبت فجأة علي حياتنا الجافة المرتعشة دون استعداد نفسي لها ؟ تحولت الحرية من سقف كنا نتمني أن يرتفع ، إلي سماء بلا سقف ، لانصدق أننا يمكن أن نتكلم عن الحياة الشخصية للغاية لأشخاص كان يبدو الاقتراب من تفاصيلهم القريبة جنونا مؤكدا ، كان نقدهم مباحا ومتاحا في السر والعلن ، في الجلسات الخاصة حول موائد مقهي أو مكاتب عمل ، وفوق صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون ، كان النقد جائزا إلي حدود .. لكن الدخول إلي الحياة السرية كان هو الجريمة الكاملة ، تناول الثروات والعمولات والمصالح والصفقات ، كان يشبه الممنوعات التي تؤدي حتما إلي اتهام من يحاول بالكذب أو الحقد أو الجنون ! كان هناك غياب صارخ للمعلومات ، إختفاء للوثائق التي تكشف ما وراء القصص التي نسمعها ونتداولها ، كانت مهارة الفساد أنه يترك خلفه تخمينات وثرثرة ولايترك وراءه بصمة أو رقما ، لذلك كانت مفاجأة للجميع تلك الأرقام التي نسمعها عن سرقة أو فساد ، جاءت الحرية بالحرية ، لكنها لم تأت حتي الآن بالكثير من الوثائق والمعلومات ، مرة أخري غابت الأرقام بكل دقتها والقصص بكل تفاصيلها وإن بدت الحرية متاحة والقدرة علي التحدث تتيح للجميع أن يدلي بقصة أو وثيقة أو معلومة أو رأي قائم علي حقائق ! فبقيت القصص ناقصة ، وتبرعنا جميعا دون براعة حقيقية في استكمال القصة ، حدث نشاط مكثف وزائد ، حاولنا فيه حل كل الألغاز المعلقة ، ووضحت الحروف المختفية من الكلمات المتقاطعة ، تحولنا جميعا في رداء الحرية أن نتكلم ، نحمل مصابيح المعرفة بكل شئ ، نؤلف المقاطع الناقصة بكل ثبات ودون أن يهتز لنا رمش عين أو ننوه بين قوسين أن ما تحته خط هو من إعرابنا نحن وخيالنا نحن وإبداعنا نحن ، حولتنا الحرية التي جاءت مثل بركان خامد يثور إلي عتاة في التحليل السياسي وعملاء مدربين في أجهزة مخابرات عظيمة ، أصبحنا بارعين في فبركة ما خفي وكان أعظم ، لم يعد أحد يقول من باب الأدب أو التواضع لا أعرف ، الكل يعرف ، والجميع يفهم ، والأغلبية عندها الخبر اليقين مثل جهينة ، حرية حرية ، تصل لك الأخبار بتحابيشها وتحليلاتها وخباياها ، تصل لك النظرية كاملة ، كلنا نفعل ذلك الأن " أوع تكذب وتقول ماحصلش " ، كلنا أصبحنا مصادر أخبار ، وفوقها مصحف نحلف عليه أننا رأينا وعرفنا وبالمرة شهود عيان ، ولما رأي زملاؤنا في برامج ما يسمي من مخلفات الماضي : توك شو ، كذبا وبهتانا ، رأوا أن بضاعتهم أصبحت بائرة ، فالمواطن المصري أصبح لديه اكتفاء ذاتي من تأليف الأخبار وتلوينها وتطريزها وتحليلها ، حرية حرية ، وتكفل الفيس بوك بأن أصبح أكثر حرفية ومرونة وحرية وعفوية وإبداعا من هذه البرامج ، يكفي أن مؤلفيها مليون شخص علي الأقل وهم هواة وليسوا محترفين ، فماذا فعلوا ؟ تحولت البرامج إلي استحلاب للماضي والبحث عن أي مادة مثيرة لخطف المشاهد ونفخ في حبة رمل لتصبح عاصفة ، حرية حرية ، خرج مئات الضيوف الممنوعين من العلب ومن صناديق مغلقة كنا نسيناها لتصفية حساب أو استعادة مساحة مفقودة أو كرسي ضائع ، خرج مئات يتكلمون في لذة يهدمون وطنا بمن فيه ، حرية حرية ، يفجرون مؤامرات أو يصنعون جدلا ويرسمون ملامح إثارة ، يتوعدون وطنا بالحساب ويتركون خلفهم غبارا لاحدود له يعدم الرؤية ويبعث خوفا ، معارك تتم علي الهواء عند منتصف الليل علي تليفزيونات مصرية بإسم الحرية ، حرية حرية ، معارك إما تتم عن جهل أو كسل أو بحث عن نجاح هش ، أو هي اقتسام مؤامرة تدبر لوطن عاجز في هذه المرحلة أن يصرخ حتي أن يصرخ ليقول لمواطنيه : حرام ، أرجو أن تتركوني في حالي فأنا علي فراش المرض بعد رحلة ألم طويلة وعملية جراحية معقدة وخطيرة وأريد أن أستريح قليلا وأغفو قليلا وأفكر وحدي قليلا ! لكن ، حرية حرية ، فكيف يصبح اليوم يوما بدون كدمة جديدة في عين الوطن وجبهته ، بدون مزيد من الوجع في قلبه ومعدته ، بدون تمزق حنجرته من الصراخ والبكاء ، كيف يصبح اليوم يوما بدون 24 حادثة ، و24 خبطة ؟ حرية حرية ، والكتالوج لم يأت في العلبة ، وصندوق الفتاوي ملئ بكل صنف ، وصندوق الإتهامات علي أخره بكل الوصفات ، وحروف الجر والنصب وعلامات الإستفهام والتعجب متاحة مثل الملح ، يوضع علي الجرح .. يصبح نارا! والجروح مفتوحة ، كثيرة ، والحرية التي لاعقل لها أو تجربة سابقة ، تضعنا أمام إجابات خاطئة ، وكلما وصلنا إلي طريق إكتشفنا أنه مقطوع ، وكلما مشينا خطوات وصلنا إلي أوهام ، حرية حرية ، حرية أن تعترض علي حرية الآخرين ، منتهي الحرية ، حرية النبوءات بكل ماهو سيئ للوطن ، لماذا نستخدم حريتنا في ضرب الودع وفتح فنجان الوطن وقراءة أسوأ ما ينتظرنا ، هل الحرية هي أن نسرق من الوطن بعض الأمل الذي نعيش من أجله ، هل الحرية أن نهشم كل المصابيح علي الطريق ، هل الحرية أن نتكلم فقط في ماضي بائس وحاضر صعب ومستقبل مظلم ، هل الحرية أن نتكلم فقط في السياسة ولانترك مساحة الكلام لعلماء ومفكرين وحكماء يقولون لنا كيف نصنع من اليوم مستقبلا أفضل ، كيف نبني وطنا بعد أن أسقطنا نظاما ، كيف نعيد للعلم قيمته بعد أن مسحنا بها البلاط ، كيف نمهد للمواطن أن يستخدم حريته في التفكير والتثقيف وليس الثرثرة والتهديد . الحرية التي نستخدمها الآن بقايا كبت عميق ، فتكلمنا في كل شئ ، حرية جوع فضفضة وفوضي ، حرية سداح مداح بالإقتباس من الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين ، حرية طاخ طوخ طيخ علي طريقة سينما الترسو وشجيع السيما ، حرية من ليس معي فهو ضدي ، حرية بطولات زائفة ومسرحيات رديئة وأدوار هزيلة ، حرية حرية ، أول الحرية أن تصمت حين لاتعرف ، تسكت عندما لايكون لديك إضافة أو إجابة حقيقية . هل تمنحنا الفترة المقبلة ثقافة الحرية ، بعد أن أصبحنا نعيش حرية حرية ، هل يمنحنا أحد الكتالوج المفقود ، هل تصبح الحرية : عاقلة هادئة رزينة ، حرية أولها حب للوطن ، حرية لاتقف علي نزوة أو رغبة أو سطوة أو كذبة أو خروج عفاريت العلبة إلي عتبة الحياة . حرية منضبطة ، لها سقف واضح ، لها ملامح وروح وضمير ووعي ، ربما أكون أول الكتاب الذين يطالبون للحرية بنهاية بكتالوج ، لكن لن أكون آخر من يطلب ، والأيام بيننا .