التركة.. في الدول التي تقدس الحاكم وتخلع عليه صفات الحكمة.. والرؤية المستقبلية الاستراتيجية.. وتمتدح دوره في دوران الأرض.. وسقوط الأمطار.. واحتكاك السحب في السماء.. هي الدول التي ترث فيها الشعوب تركة ثقيلة جداً. والتركة الثقيلة.. جداً.. تنتقل من جيل لجيل.. والمشاكل تتفاقم وتتراكم.. إذا استمرت الشعوب في معالجة معضلاتها.. بالطريقة نفسها.. وبالحلول الأبوية التي أدت للتركة الثقيلة جداً في المرة الأولي! وفي كل مرة يتصور الحاكم أنه الأب الذي يعرف »احنا عايزين إيه.. وعلينا أن نهدأ وننام.. لأنه يسهر علي راحتنا«.. وسط موجات من النفاق ودقات الدفوف والمزاهر.. تخدر الحاكم.. وتجعله يتثاءب ويتمطي.. ويهز أردافه! ستالين.. ورث عن لينين.. تركة ثقيلة! خروشوف.. ورث عن ستالين.. تركة ثقيلة! بريجنيف.. ورث عن خروشوف.. تركة ثقيلة! وجورباتشوف.. ورث عن بريجنيف.. تركة ثقيلة! وبوتين ورث عن يلتسين.. تركة ثقيلة! وما حدث في الاتحاد السوفيتي السابق.. تكرر في دول أوروبا الشرقية. حدث في المجر ورومانيا وبلغاريا وألمانيا الشرقية وألبانيا.. الخ.. لسبب بسيط.. هو أن السياسات في كل هذه الدول كانت متشابهة.. وعندما انهار المركز الرئيسي في موسكو.. انهارت الفروع في العواصم الأخري.. وسعت شعوب هذه الدول لأن يتم الحكم فيها بطريقة مختلفة. الطريقة القديمة.. التي كانت تقوم علي الحاكم الملهم الذي يتلقي الوحي والحكمة من السماء السابعة.. لم تعد تصلح في ظل ثورة علمية وتكنولوجية أتاحت لشعوب العالم أن تطل علي بعضها البعض.. وأن تري التقدم في الدول التي واكبت العصر.. والتخلف المروع الذي حدث في الدول التي تعفن فيها الحكام فوق مقاعد السلطة. وفي كل الأحوال.. كانت هناك تركة ثقيلة.. ظلت الشعوب تكابد آثارها لسنوات طويلة.. لأن التركة لم تكن تتعلق بالخراب الذي حدث من جراء الأسلوب القديم في حل المشاكل.. فحسب.. وإنما من جراء الفرص الضائعة.. التي لم يتم استثمارها في الوقت المناسب.. فالنظم التي تعتمد علي القهر.. والفساد.. وشغل الشعوب بمشاكلها الخاصة.. في التعليم.. والمواصلات العامة.. وأزمات التموين.. والصراعات الطائفية.. لا تسفر فقط عن تركة مادية ومعنوية.. ولا عن انتشار الفقر والعشوائيات فحسب.. وإنما هي تسفر سلسلة طويلة من الفرص الضائعة. وأتصور أن تركة الفرص الضائعة.. هي أخطر ما ورثناه عن حكم الرئيس المتخلي حسني مبارك. كانت الثلاثين سنة في حكم مبارك، هي سنوات الفرص الضائعة، التي تعد واحدة من أهم ألغاز سنوات حكمه! وسوف يقف التاريخ طويلاً.. أمام فرص التنمية التي أهدرها الرئيس المتخلي.. والتي تشكل لغزاً.. يعد في رأينا من أهم ألغاز تاريخنا المصري الحديث. إلي جانب رحلاته الخارجية التي كان يطلق عليها »رحلات الخارج من أجل الداخل«. لقد كانت فترة حكم الرئيس المتخلي.. التي امتدت لسنوات طويلة.. وغير مسبوقة.. هي فترة الألغاز، وعلامات الاستفهام.. وستكون هذه الألغاز.. هي أهم ملامح عصره. أول هذه الألغاز التي بدت علي السطح بعد توليه السلطة مباشرة.. »وهو اللغز الذي لم أجد له إجابة من الدكتور عصمت عبدالمجيد وزير الخارجية في تلك الأيام«.. هو لغز زيارته المفاجئة لصدام حسين في بغداد.. رغم عدم وجود علاقات دبلوماسية بين البلدين.. ورفض صدام لإعادة العلاقات مع مصر.. رغم الزيارة التي صحبه فيها الملك حسين! في تلك الأيام كانت تستعد فيها مصر لتنفيد العديد من البرامج التنموية في إطار المشروع الذي تبناه المستشار الألماني الأسبق هيلاف شميت.. وهو »مشروع دعم السلاح في الشرق الأوسط« الذي تضمن حصول مصر علي أربعة مفاعلات نووية.. اتفق الرئيس المتخلي مع صدام حسين علي تهجير أربعة ملايين فلاح مصري.. أغلبهم من شباب القوات المسلحة إلي بغداد بعد تزويد كل شاب بخمسة أفدنة وجاموسة.. فيما كان يطلق عليه »خمس فدادين وجاموسة« ليزرع ويعمر.. خارج حدود بلاده.. وبعيداً عن مشروعاتها الوطنية.. في التعمير.. وإزالة الآثار التي ترتبت علي وقف برامج التنمية بعد عدوان 7691. وأعني بها إزالة الآثار الاقتصادية والاجتماعية والتنموية التي ترتبت علي أحداث 7691.. والتي ألقت بآثارها السلبية علي جميع مرافق الدولة، بسبب حالة الحرب من ناحية.. وبسبب حرب الاستنزاف التي تعرضنا لها في تلك الأيام. كان مشروع »دعم السلام في الشرق الأوسط«.. هو صورة »لمشروع مارشال« الذي قدمته أمريكا لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية من ناحية.. ووقف تيار الأحزاب الشيوعية التي انتشرت في العديد من الدول الأوروبية.. من ناحية.. إذ كان مشروع مارشال هو أحد مشاريع مكافحة الشيوعية.. ليس إلا! ومشروع دعم السلام في الشرق الأوسط.. هو المشروع الذي أسفر عن تكوين صندوق يحمل الاسم نفسه.. وكان قد بدأ في تلقي المساعدات المالية والفنية لتنفيذ المشروعات المتعلقة بتنمية سيناء لتكون منطقة سلام.. وحصلت مصر بموجبه علي أربع مفاعلات نووية.. ووقع الاتفاق بشأنها المهندس ماهر أباظة في حضور الدكتورة عائشة راتب سفيرة مصر في بون.. أيامها.. وكان لي شرف حضور التوقيع. وكان هذا المشروع »مشروع دعم السلام في الشرق الأوسط«. هو أهم أسباب اغتيال أنور السادات، كما جاء في التحليلات الأوروبية بعد ذلك. وجاء الرئيس المتخلي حسني مبارك.. وقد رأي أمام عينيه رأس الذئب الطائر.. فقررالتخلي عن المشروعات الكبيرة.. وفي مقدمتها مشروعات تنمية سيناء.. وقاده ضعف إدراكه إلي تهجير أربعة ملايين شاب مصري إلي العراق.. يساهموا بعد ذلك في الحرب العراقية الإيرانية بدلاً من تهجيرهم لسيناء.. ليستعيدوا الأرض بوضع اليد. وبذلك جري وقف برنامج دعم السلام في الشرق الأوسط.. في الوقت الذي توقفت فيه خطط تنمية سيناء.. ومعها مشروعات التنمية في الوادي. توقف »برنامج دعم السلام في الشرق الأوسط«.. بحجة أطلقتها إسرائيل ولقيت رواجاً إعلامياً هائلاً في أوروبا تقول إن مصر قد انتقلت من معسكر السلام، لمعسكر الصمود والتصدي بزعامة صدام حسين.. ولم تعد تستحق المساندة. وهذا أغلق ملف برنامج دعم السلام في الشرق الأوسط.. وبدأت رحلات الخارج من أجل الداخل طلباً للمعونات.. إلي الحد الذي صارح فيه زعيم دولة أوروبية كبري الرئيس المتخلي حسني مبارك بقوله: سيادة الرئيس.. أرجوك لا تزورنا مرة أخري.. ونحن لا نستطيع أن نقدم لك سوي المساعدات الفنية!! الطريف في الموضوع.. أن الولاياتالمتحدةالأمريكية حاكمت رئيسها بيل كلينتون.. وهو في قمة مجده بسبب قبلة ساخنة.. بينما نحن لم نحاكم الرئيس المتخلي حسني مبارك بسبب تركة مشتعلة! أيهما أهم.. القبلة.. أم التركة؟! أيهما يستحق المحاكمة؟! قل الحق!