قبل اقتراب أيام الشهر الفضيل، رمضان الكريم، اقترب معه تكاثُف مُريع من ظُهور شياطين الإنس التي تحيط بنا كل عام قبل شهرين من قدومه، وتتوصَد لإغلاق كل أبواب الرحمة علينا، تنافس محموم بين المنتجين لإغراق القنوات التليفزيونية والفضائية العامة والخاصة بكم هائل من المسلسلات والبرامج الفكاهية، ولا تؤاخذوني « التافهة «، يتزامن معه تنافس هذه القنوات بملء ساعاتها علي مدار اليوم بالإعلانات عنها، وتتنافس أعمدة الشوارع والكباري بكل أنواع الجذب بصور أبطالها، لكسب أكبر شريحة من المشاهدين، لم أر خلالها إعلاناً واحداً عن مسلسل ديني أو تاريخي، ولا أدري لماذا لا نري مثل هذا الإنتاج الشيطاني طوال شهور العام ! هل العيب فينا أم في المنتجين ! هل هوَ تآمُر علينا أم تآمُر منَا، بمعني هل المقصود إلهاؤنا عن طقوس الشهر الكريم، أم أنه بسبب الطبيعة الكُسليًة، من الكسل والتنبلة، لمعظم الصائمين الذين اعتادوا علي قضاء ساعات الصيام وساعات السهر أمام التليفزيون، فتزداد نسبة المشاهدة التي يستغلها المنتجون لإنتاج مسلسلات وبرامج تخلق حالة من الجمود الفكري والعقلي، إيا كان، هم أم نحن، لا فرق، فكلنا نوصد ونغلق أبواب الرحمة علينا، وهي الأبواب التي تُفتح علي مصراعيها لتقبُل التوبة ومضاعفة الثواب، وأصبح شهر رمضان موسماً إعلامياً ضخماً تنتظره شركات الإنتاج الفني والقنوات الفضائية وأيضاً المشاهدون، بدلاً من التفرغ للعبادة والتواصل الاجتماعي، ولأنَ الشئُ بالشئُ يذكر، فإن تحويل الشهر الكريم لم يقتصر علي التجارة الفنية فقط، بل يتزامن معه التجارة الغذائية أو ما أحب أن أسميها « تجارة الجوع » أي والله، فحين أشاهد التزاحم الشديد في الأسواق والمحلات الغذائية قبيل قدوم الشهر الكريم، وكميات المواد الغذائية التي تبتاعها الأسر للتخزين والتي تكفي الأسرة الواحدة لمدة عام كامل وليس شهراً واحداً، أتمني ألا أتناول الطعام طوال حياتي، فالداخل إلي الأسواق خلال هذه الأيام مفقود ياولدي والخارج منها مولود..! وأشير هنا أن غلاء الأسعار ليس مسئولية الحكومة فقط، بل مسئوليتنا جميعاً، فهذا الطلب المتزايد غير المبرر علي المواد الغذائية قبيل شهر رمضان الذي ينتقص فيه الإنسان وجبة من وجباته، يجعل التجار يرفعون الأسعار، طبقاً لقانون العرض والطلب، والإعلانات عن المواد الغذائية تتنافس مع الإعلانات عن المسلسلات والبرامج الفنية، وينتشر ما يسمي بموسم التخفيضات « كده وكده يعني « وهي أكذوبة اعتدنا عليها كل عام، واستغلال لرفع الأسعار والتي لا تعود لسابقها، والسؤال المحير، يقولون أننا أكثر الشعوب تديناً بالفطرة، فهل نحن شعب يحتاج لعلاج نفسي أم علاج ديني..! كل عام وأنتم بخير. مسلسلات رمضان السبت : ولأن الشيء بالشيء يذكر، فقد جاء في بريدي رسالتان، الأولي من د. عبدالله الناصر حلمي، أمين عام اتحاد القوي الصوفية، يخطرني بالحملة التي أطلقها باسم « مقاطعون لمسلسلات وبرامج المسخرة التليفزيونية «، قائلاً.. إن هذا الكم من المسلسلات الدرامية خلال الشهر الكريم هي حملة ممنهجة وأياد خفية تعمل لتدمير أخلاقيات الإنسان المصري من خلال إنفاق المليارات لإيهام العالم بأن «العهر والمخدرات والجريمة» بمختلف أشكالها يجتاح المجتمع المصري ونحن جميعا نعلم ان الممول الحقيقي لهذه الأعمال هي شركات الدعاية والإعلان لذلك ندعو المواطنين الشرفاء لمقاطعة متابعة هذه الاعمال التليفزيونية المشينة ومقاطعة الشركات المعلنة والتوقف التام عن شراء منتجاتها وخدماتها حتي تتوقف هذه المهزلة التي تعصف بهيبة وحرمة الشهر الفضيل ومكانة مصر في قلب الوطن العربي النابض، إن مصر إذا مرضت يمرض الوطن العربي كله ويصيب جسده الهزال إلي أن يشفي وتعود الحياة إلي طبيعتها في جسد الوطن العربي. إن صندوق مكافحة الإدمان رصد 348 مشهداً عن التدخين والمخدرات في مسلسلات رمضان خلال 5 أيام فقط في أول الشهر الكريم، وكان أول من انتقد الممثلين المصريين في مسلسلات رمضان واتهمهم بأنهم يروّجون لتعاطي المخدرات والتدخين، وقد أطلق الصندوق قائمة سوداء علي المسلسلات التي تروج بكثرة لتعاطي المخدرات خاصة مشهد الأم التي تطلب من إبنها في أحد المسلسلات حبة ترامادول وهو ما أثار جدلاً واسعاً بين المصريين. وهو ليس المشهد الأول الذي يمرّ ضمن المسلسلات المصرية ويتحدث عن الإدمان كأمر طبيعي في المجتمع المصري، ولكن الإنتقادات التي لاقاها هذا المشهد أنه يظهر أن الإدمان أصبح يطال حتي الأمهات المصريات ويصوّر الأمر علي أنه ضرب من الكيف. إحصائية الصندوق عن المشاهد التي ظهرت فيها مقاطع التدخين وتعاطي المخدرات كانت قد وزّعت علي الشكل التالي في 10 ساعات عرض تلفزيوني، منها 272 مشهد تدخين بإجمالي 7 ساعات و27 دقيقة، و76 مشهد تعاطي مخدرات وتناول كحول بإجمالي ساعتين و35 دقيقة، وتصدّرت قائمة تلك المسلسلات التي رصدها الصندوق وأطلق عليها بالقائمة السوداء كل من العملين «الطبال» بنحو 25 مشهداً للتدخين و10 مشاهد تعاطي مخدرات فقط خلال الحلقات الخمس الأولي، ومسلسل «الكيف» ب 19 مشهد تدخين و12 مشهد تعاطي مخدرات، كما وضع المرصد قائمة أخري تضم الأعمال الدرامية الأقل احتواء علي مشاهد تعاطي مخدرات، وجاء علي رأسها مسلسل سقوط حر ورأس الغول والقيصر وهي ودافنشي ويوميات زوجة مفروسة وهبة رجل الغراب ونيللي وشريهان، الصندوق أشار إلي أنه سيستمر في رصد التناول الدرامي لظاهرة التدخين وتعاطي المواد المخدرة «.. انتهت رسالة د. عبدالناصر حلمي مطالباً منًا أن نساهم معه في حملة المقاطعة. بنات سوبرمان والرسالة الثانية جاءتني من محمود حجاج، الذي تقدم ببلاغ للنائب العام ضد مسلسل « بنات سوبرمان» مطالباً بمحاسبة القائمين علي هذا العمل، جاء فيها، أن الحرية لا تمنح أحدا الحق بأي وسيلة كانت بالتعدي علي الديانات السماوية وممارسة شعائرها وفروضها، وأن التحريض علي مثل هذه الأفعال يجرمها الدستور والاتفاقيات الدولية، وأن المسلسل انتهك فرض هذه الجريمة في كثير من المشاهد خاصة فرض الصلاة وقراءة القرآن الكريم وهو ما يعتبر نوعاً من الكوميديا السامة وانتهاكاً لديانة سماوية. ولأني لست من هواة مشاهدة المسلسلات الدرامية خلال شهر رمضان، فلا أستطيع الحكم علي ما جاء بالرسالتين، وإن كنت أريح نفسي بمقاطعة الدراما التليفزيونية والاكتفاء بالقليل من البرامج الإخبارية لمعرفة ما يدور من حولي، والدينية التي تعطيني دفعة روحانية أحتاجها خلال أيام الشهر الكريم. الأسمرات الأحد : أتابع مشروع الأسمرات للإسكان الاجتماعي بالمقطم الذي افتتح المرحلتين الأولي والثانية منه الرئيس عبد الفتاح السيسي، لنقل أهالينا من الفئات الأكثر احتياجاً في العشوائيات بالدويقة وعزبة خير الله واسطبل عنتر لمساكن آدمية مفروشة بالكامل بأثاث راق بعد ما لاقوه خلال سنوات طويلة من إهمال وتهميش، هذا المشروع أراه من أهم وأعظم المشاريع المصرية طوال العامين الماضيين من حكم السيسي لأنه سيمهد لتفريغ العشوائيات الذي كان حلماً لكل مصري وأصبح حقيقة ملء العين والبصر بعد أن شاهدت مساكن آدمية خطت للمعيشة بطريقة آدمية راقية لهؤلاء الأسر التي كانت تعيش وسط القمامة والقاذورات والحشرات، ناهيك عن حياة بدون ماء نظيفة ولا كهرباء في بيوت تهدم عليهم وتغرق بمياه الصرف الصحي والأمطار، وهو لا ذنب لهم سوي شظف العيش وقلة الحيلة. وكلي أمل أن تنتهي مشكلة العشوائيات خلال العامين المقبلين كما هو محدد لها وأري كل من يقطن في العشوائيات قد انتقل لحياة آدمية في مباني شاهدناها تضاهي أعظم المباني في مصر ومكتملة الخدمات من مدارس وأندية وحدائق ووحدات صحية وهو ما سيكون مردوده الإيجابي ليس عليهم فقط بل علي جميع الشعب المصري، فما أجمل أن نضع ابتسامة عريضة علي وجه البسطاء ونشعرهم بآدميتهم، هو جهد مشكور للرئيس والحكومة ولكل من شارك في هذا المشروع الرائع من الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني. المنشاوي الإثنين : كثير من الأجيال الجديدة لا يعرفون القارئ الشيخ محمد صديق المنشاوي الذي توفي في 20 يونيو عام 1969 عن عمر يناهز 49 عاماً ومرت ذكراه السابعة والأربعون منذ أيام في هدوء، لقد تربينا صغاراً علي صوته الخاشع الباكي والذي ارتبط دوماً بترتيل القرآن الكريم في شهر رمضان المبارك، وذاع صيته لعذوبة صوته وانفعاله بالمعاني والألفاظ القرآنية، وللشيخ محمد صديق المنشاوي تسجيلات عديدة للقرآن الكريم، وله مقوله شهيرة لقد جُبت بلاد عديدة ولكني لا أشعر بطعم رمضان إلا مع أهلي في مصر « وكان الملك محمد الخامس ملك المغرب قد عرض عليه الجنسية المغربية وأن يحيا معه عيشة الملوك لكنه رفض مفضلاً الإقامة في مصر، كما رفض أيضاً طلب ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي أن يخصص له قصراً ضخماً بعيش فيه، وفي أواخر أيامه أُصيب بدوالي المرئ ولكنه أصر علي الاستمرار في تلاوة القرآن الكريم، رحم الله الشيخ محمد صديق المنشاوي وأخلفنا عنه خيراً. محمد حمزة «رميت الورد طفيت الشمع يا حبيبي.. والغنوة الحلوة ملاها الدمع يا حبيبي..وف عز الأمان ضاع مني الأمان.. واتاريني ماسك الهوي بإيديٌ ماسك الهوي «.. من أحلي الكلمات التي كتبها الشاعر الغنائي الراحل محمد حمزة، حيثُ تتوافق ذكراه أيضاً هذا الشهر والذي توفي في 18 يونيو عام 2010، عن عمر يناهز 60 عاما، وترك وراءة ثروة شعرية غنائية بلغت أكثر من 1200 أغنية عاطفية وشعبية ووطنية تغني بها كبار نجوم مصر والوطن العربي من المطربين والمطربات من زمن الفن الجميل أشهرهم العندليب الراحل عبد الحليم حافظ الذي شدا له بأكبر عدد من الأغاني حيث بلغ تعاونهما معاً في 37 أغنية من أجمل ماغني حليم، وتبقي أغنيته الشهيرة « ياحبيبتي يامصر « التي تغنت بها شادية، والتي ملأت ميادين مصر خلال ثورة الخامس والعشرين من يناير، هيً القاسم المشترك في كل مناسباتنا الوطنية، وكان حمزة في زمنه لا يقل تألقاً مع الشاعرين الكبيرين مرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل، وقد رحل محمد حمزة وفي قلبه غصة من موجة الغناء الهابط التي اجتاحت مصر منذ التسعينيات من القرن الماضي رغم أنه لم يستسلم وقال مقولته الشهيرة « أن تضيء شمعة خيراً من أن تلعن الظلام ألف مرة « فقدم للمطربة أصالة أغنيتها الشهيرة « سامحتك كتير « و» غيًار قوي « و» صابرة يانا «، ولهاني شاكر « هوً اللي اختار « و» لف يا قلبي « وغيرها من الأغنيات التي افتقدناها في زمن ضنت فيه الكلمة واللحن علي آذاننا فعدنا نسمع كل قبيح مؤذ للمهجة والنفس إلا القليل الذي يضيع وسط زحام الرث من الأغنيات، فأين نحن الآن من « عيون بهية « التي تغني بها محمد رشدي، و» أحلي طريق في دنيتي « التي غنتها فايزة أحمد، و» نبتدي منين الحكاية « لعبدالحليم حافظ و»العيون السود» التي تغنت بها وردة، و..و.. رحم الله شاعرنا الكبير الذي ما زال يسعدنا كلما استمعنا لكلماته الراقية. الشهامة المصرية الثلاثاء : قبل أسبوعين من بدء أيام الشهر الفضيل سالت صفحات الإعلانات كالفيضان علي صفحات مقالات الرأي واحتلتها، ثم جاء شهر رمضان لتحتل الصفحات الدينية صفحات الرأي « وأحلي من كده ما فيش «، فنحن نحتاج الإعلانات التي تنتشل المؤسسة من أزمتها، كما نحترم الصفحات الدينية التي تنعشنا بشحنة روحانية طوال الشهر الكريم، ولأن موضوع سيدة المنيا المعتدي عليها الشهر الماضي بمدينة أبو قرقاص ما زال يقلقني ويُنغص عليً حياتي، وكنت أود الكتابة عنه باستفاضة لكن ما باليد حيلة، وفي كلمات قليلة، كل الاعتذار علي ما حدث لها، والسؤال لكل رجال قرية أبو قرقاص، هل أصبحت الشهامة المصرية في خبر كان، ما حدث لهذه السيدة ليس جريمة جنائية فقط بل جريمة في حق الإنسانية، وإذا كان شعور هذه الأم المصرية وقت الحادث كما قالت « يا أرض انشقي وابلعيني «، لا والله، نقولها نحن بأعلي صوت « يا أرض انشقي وابلعينا قبل ما نعيش لحظة سقوط الشهامة المصرية «..! خيرُ الكلمات اللَّهُمَّ إِنَّكَ عُفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّا هم أم نحن لا فرق فكلنا نوصد ونغلق أبواب الرحمة علينا وهي الأبواب التي تُفتح علي مصراعيها لتقبُل التوبة ومضاعفة الثواب