للأسف تغير المصريون..تخلي أغلبهم عن أجمل ماكان فيهم من سمات شخصية.. ومن صفات..ومن أخلاقيات..وسلوكيات، بل وحتي اهتمامات. في البيوت لم تعد بيوتنا تلك البيوت الدافئة بالحنان والمشاعر والحب الراقي والحنية الجميلة..ولم نعد نجد الأم التي نسكن في أحضانها.. والأب الذي نلوذ بقوته الحانية، والجد الذي يغمرنا بحكمته، والجدة التي تهدأ في حضنها أرواحنا، وتنساب داخلنا حكاياها المؤثرة بقيمها.. اختفت «لمة» العيلة الكبيرة بفرحتها وصخبها ورواياتها وأسرارها التي تُحجب عن الصغار.. وأحكامها النافذة.. ومراجعاتها الحكيمة والصارمة لكل سلوكيات أفرادها حتي النزول بحب عند رغبة كبارها.. اختفت معاني الجيرة الرائعة في السكن الذي كنا نتباهي بروعة الذكريات فيه.. كنا نحظي بجمال العلاقات الرائعة والقربي الرحيمة والشراكة الإنسانية الفريدة.. وأولاد العمارة يمارسون الشغب والشقاوة ويطلقون أحلامهم عبر جُدرها.. وحيث الكبار يتشاركون الخير واللقمة الحلوة والمشورة. أما الشارع ففقد أمانه.. حيث كان رجال الشارع والحارة يحرسون.. ونساؤها يتآلفون.. وشبابها يتحابون.. والأديان تتعاشر.. ومآذن المساجد وأجراس الكنائس تتعانق.ّ في المواصلات.. كان الشاب يقف احتراما للكبير .. وتربت العجوز علي الشابة.. وتهمس الأصوات.. وتتجلي الآداب..وتتجمل الأخلاقيات.. وتمضي رحلة الوصول في صُحبة أطمئنان.. في العمل وفي أماكن العلم وفي دور العبادة وفي المستشفيات وفي النوادي والتجمعات..كان الصدق والتفاني عبادة. وفي السياسة كانت تسود الوطنية وتتنافس ولاءات الانتماء وتسمو الخلافات كي لا تتجاوز قيمة وقمة الوطن.. وتتحد لاءات رفض الأعداء. في الأزمات والحروب..كان الكل يتسابق لنصرة مصر..وكانت كرامة الوطن فوق الرؤوس.. وكان النشيد الوطني يهز أعماقنا.. وتحية العلم ترتعد احتراما لها أفئدتنا. وفي الفن والطرب وكل الفنون التعبيرية والتشكيلية الراقية والعمارة والأدب والسينما والمسرح كان الرقي يسود والغث هو يموت. كان الذوق يترفع.. والإتيكيت يُفرض.. والأصول تُحترم.. والمكانة تُحفظ..والمقامات تصان. كانت الأناقة تتباري.. والنظافة تتباهي..وكانت المدينة تحاول أن تزهو علي القرية بتمدنها.. فتهزمها القرية بأصالتها. أما الوجوه فكانت ناعمة مستبشرة، والنفوس راضية مرضية،والأيام تمر بحنان خلاب فيولد من يولد محاطا بالحب، ويغادر من يغادر مشمولا بالتكريم. هل أنا «دقة قديمة» ليتني بقيت كذلك.. وليتني لم أعش في غياب نور التحضر والحب الحنو بين عاشقيها.. ولاذهاب القيم عن سلوك ساكنيها.. ولاتراجع حقيقة التدين وروحه عن متدينيها! مسك الكلام.. تغيب رغبة الوجود.. عند غياب جمال الموجود.