يبدو أننا أصبحنا علي موعد مع يوم الجمعة كل جمعة. لم يعد اليوم مهما فقط للمسلمين لارتباطه بصلاة الجمعة. أتصور أنه اصبح العالم كله يترقبه ليعرف ماذا سيجد علي العرب فيه. كان شكل شاشات قنوات التليفزيون يوم الجمعة الماضي أكثر إثارة. نقلت مشاهد المظاهرات الضخمة التي انطلقت في وقت واحد في أكبر ميادين القاهرة وبنغازي وتونس العاصمة والمنامة وصنعاء. كل هذه المظاهرات التي ضمت الملايين من البشر تطالب بتغيير نظم الحكم في بلادها. وكلها تعبر عن ثورات شعبية وليست انقلابات مسلحة. مر زمن طويل لم يعرف العرب غير الانقلابات العسكرية لتغيير أنظمة الحكم. اليوم خرج المارد من القمقم وانطلق ليغير حكمه بنفسه. لخص هذا المارد ثورته في شعار واحد يجتاح العرب : »الشعب يريد إسقاط النظام«. هذا شعار لم يسمعه العرب من قبل منذ تكونت الدول العربية وأصبحت لها أنظمة سياسية. أعتقد أن هذا الاجتياح الثوري للعرب يعود بنسبة كبيرة الي نجاح الخطوات الأولي لثورة مصر. بالطبع قامت ثورة الشعب في تونس قبل قيام ثورة 25 يناير في مصر. وبالطبع لعبت ثورة تونس دورا مهما في تشجيع كثير من فئات الشعب المصري للانضمام للثورة. ولكن ليسمح لي الأخوة التوانسة بعد اعترافي بفضلهم أن أوضح أن قيام ثورة في مصر يكون أكثر تأثيرا علي العالم العربي من قيامها في أي بلد عربي آخر. ذلك مفهوم بحكم الخواص التي تمتلكها مصر والمعروفة جيدا في عالم الجغرافيا السياسية. من هذه الخواص موقع مصر الجغرافي علي حدود قارتي أفريقيا وآسيا. وعدد سكانها الأكبر في الدول العربية. وريادتها التاريخية السياسية والثقافية (الحضارية). وإمكانياتها الاقتصادية المستغلة، والأكثر منها غير المستغلة. وعلاقة مصر الخاصة وتأثيرها في الصراع العربي الإسرائيلي بحكم حدودها المشتركة مع الفلسطينيين والإسرائيليين. وغير ذلك من خواص. هذا لا ينتقص من أي دولة عربية أخري بالطبع، ولست بصدد إجراء أي مقارنة بين الدول العربية لأنها مكونة من شعوب يجمع بينها أكثر مما يفرقها بكثير. إذن لماذا لعبت ثورة 25 يناير المصرية دورا مهما في تحريك ثورات باقي الشعوب العربية المشتعلة حاليا؟ لأن هذه الشعوب رأت أن الشعب المصري، الأكبر عددا في العالم العربي، تحرك في كل المحافظات المصرية في وقت واحد تحركا سلميا ليطالب بإسقاط نظام حكمه علي مدي 30 عاما. ويمكن القول أن النظام الأخير هو امتداد لنظام ثورة يوليو 1952. أي أن الشعب ثار ضد نظام يحكمه لمدة 60 عاما تقريبا. رأي العرب أن المصريين نجحوا بمقاومة سلمية غير مسبوقة علي مدي أكثر من أسبوعين معتصمين في العراء، في إجبار رأس النظام علي التخلي عن الحكم مع أسرته، وفي حل المؤسسات التشريعية وتغيير الحكومة. ورأي العرب كيف فشل النظام البوليسي، الذي اعتمد عليه النظام السياسي في الاستمرار في الحكم طوال 60 سنة، في إجهاض الثورة الشعبية. رأي العرب كيف ضحي شباب مصر بأرواحهم بصدورهم العارية أمام أسلحة الأمن المركزي الذي كان بمثابة جيش آخر موجه للشعب وليس لأعداء الشعب. كان موجها لداخل الوطن وليس لخارج الوطن. مع ذلك نجح الموتي، الشهداء، والمصابون بالآلاف في إشعال الإرادة الشعبية لنجاح الثورة. هزم العزل جيش الأمن المركزي المسلح. هل رأيتم مثل هذا من قبل؟ لا أتذكر الآن إلا دعوة غاندي السلمية في الهند ضد الاحتلال الإنجليزي. لكنها قصة مختلفة بالطبع. رأي العرب ما حدث في تونس ومصر فحزموا أمرهم. مع ذلك يجدر القول أن للعرب أسبابا قديمة للثورة. العمل الثوري كالعملية الكيميائية يحتاج الي تحضير لمواد وتفاعل بينها حتي تظهر النتيجة. الفارق بين الفعلين أن الفعل الكيميائي يتم داخل معامل مغلقة ولفترة زمنية سريعة. أما الفعل الثوري فيتم في فضاء المجتمع ويحتاج الي تراكم خطوات عديدة حتي ينضج وينتظر الشرارة التي تشعل الثورة. هذا حدث في كل الدول العربية التي تثور شعوبها حاليا. أول هذه التراكمات المؤدية إلي الثورة هي تخلف أنظمة الحكم وتعارضها مع عالم القرن الواحد والعشرين. في الوقت نفسه عدم محاولة أي نظام حكم عربي لتجديد نفسه ومسايرة العصر الذي تعيش فيه الشعوب. الشعب المصري ثار ضد من حكمه 30 سنة، بينما ثار الشعب الليبي ضد من حكمه 42 سنة. هل يتصور أحد أن يظل حاكم يحكم بلدا 42 سنة؟ هل كان الديناصور يعيش مثل هذا العمر؟ عندما تنظر في الدول التي تثور شعوبها تجد أن أنظمتها الحاكمة جاءت بعد انقلابات للاستيلاء علي نظام الحكم ولم تأت نتيجة انتخابات شعبية حرة علي الإطلاق. بدءا بتونس التي انقلب وزير داخليتها وقتها زين العابدين بن علي علي الرئيس بورقيبة واستولي علي الحكم، ليظل 23 عاما. مصر التي جاء إليها الرئيس السابق نتيجة محاولة لانقلاب عسكري غريب قامت به مجموعة صغيرة من الجيش، في العرض العسكري السنوي يوم 6 أكتوبر 1981 أدت إلي مقتل الرئيس أنور السادات وتولي نائبه الحكم. فهل لو لم يقتل السادات كان الرئيس مبارك قد أتي إلي الحكم؟ في اليمن يثور الشعب ضد حكم علي عبد الله صالح الذي كان رقيبا في الجيش، شاويش، قام بانقلاب عسكري هو الآخر واستولي علي السلطة ليظل 33 سنة في الحكم حتي الآن. أما الأخ ملك ملوك أفريقيا فقصته أشهر من أن تعاد كتابتها. جاء أيضا بانقلاب عسكري سماه ثورة الفاتح من سبتمبر. وأصبح من الفلكلور الشعبي السياسي العالمي. وهذا مجده الوحيد. كنت طوال الثلاثين عاما الأخيرة أحزن علي الشعب الليبي وعلي مصيره من هذا الحكم الشاذ. وأتساءل دوما : وما ذنب أطفال وشباب ليبيا أن يشبوا في هذا النظام؟ اليوم نرفع أسمي آيات التقدير والفخار لهذا الشعب الذي ثار ودفع أكبر التضحيات بين كل شعوب الدول العربية التي ثارت علي أنظمتها المستبدة. كان طبيعيا أن يدفع الشعب الليبي أكبر التضحيات البشرية نظرا لجنون وقسوة حاكمه وقلة عدد السكان (حوالي 6 ملايين نسمة). أما ملك البحرين حمد بن عيسي فهو أصغر حكام الشعوب الثائرة عمرا وكذا في مدة حكمه التي لم تتجاوز 12 سنة. لكنه تقلد ولاية العهد عام 1964 وعمره 14 سنة !! ولثورة البحرين ظروف خاصة بسبب تركيبة السكان، فضلا عن الظروف العامة، ليس هنا مجال تناولها. كان لكل ثورة في الدول الخمس العربية إرهاصات عديدة قامت بها أطراف من الشعب علي مدي السنوات الأخيرة. واشترك حكامها كلهم في تعامل واحد مع هذه الإرهاصات هو استخدام القوة والبطش فقط. كما اشتركت أنظمة الحكم في هذه الدول العربية الخمس في عامل آخر. أن كل حاكم فيها حول حكمه إلي حكم عائلي أشرك فيه أسرته، وبخاصة أولاده. فإذا كان هذا مفهوما في مملكة البحرين مثلا، فما تبريره في الدول الجمهورية الأخري غير الغباء والطمع والجشع والتخلف غير الحضاري؟ لم يدرك حكام هذه الدول للأسف أنهم يسيرون عكس عقارب الساعة. لذلك كان لابد أن يعودوا إلي الوراء وأن تدهسهم أقدام الشعب الذي يتقدم إلي الأمام في حركة الزمن مع عقارب الساعة. أتصور أيضا أن نظام الحكم الملكي أصلا لم يعد مع اتجاه عقارب ساعة القرن الواحد والعشرين. ولا توجد إلا ممالك قليلة جدا في العالم يمسك ملوكها بمقاليد الحكم الفعلية. وسوف تضطر هذه الممالك الي تغيير نظامها الي النظام الديموقراطي. ولا أقول النظام الجمهوري. فأشكال الحكم تتغير سريعا عن صورة النظام الجمهوري التقليدي الذي بدأ مع فرنسا بعد الثورة الفرنسية في القرن الثامن عشر. سيغير القرن الواحد والعشرون أشكال الحكم، لكنها كلها ستعتمد علي أمر واحد : سلطة الشعب وليس أمر الحاكم.