تبدو الكتابة عن ثورة 25 يناير وهي لا تزال ساخنة كالمشي علي الأمواج . لا يعرف الكاتب ماذا سيجد عندما ينتهي من كتابة مقالته، ولا يعرف ماذا سيحدث عندما تنشر . أكتب مقالتي هذه بعد احتفال ملايين المصريين يوم الجمعة الماضي بانتصار ثورتهم. وقد عظموا من العلامة التاريخية التي صنعوها للعالم كله. وهو القدرة علي احتشاد ملايين البشر في مكان واحد من أجل تغيير الواقع، يرددون هتافات واحدة ويعلنون مطالب مشتركة. علي حد علمي لم ير العالم هذه الظاهرة / العلامة التاريخية من قبل، ولا في أية ثورة سابقة من الثورات. حاولت مراجعة علامات الثورات الكبري التي قامت في العالم من قبل. أرجو أن يصحح لي أحد من القراء الأعزاء هذه المعلومة إن جانبها الصواب. هي ظاهرة لا تتعلق بالشكل وحده أو بعدد المشاركين في حشود ميدان التحرير ، ولكنها لابد أن تكون وثيقة الصلة بعوامل مصرية صميمة منها مثلا عدد السكان الكبير نسبيا ، وما حدث لهم خلال الثلاثين عاما الأخيرة، وعلاقتهم بوسائل الاتصال والمعلومات التكنولوجية الحديثة، وعلاقتهم بالأحداث الخارجية المحيطة بهم . من علامات يوم الجمعة التحريري ، نسبة إلي ميدان التحرير الماضي، إقامة صلاة الظهر والعصر وصلاة الغائب فيه. قدر عدد المشاركين بالملايين . علما بأنه من الصعب معرفة العدد الحقيقي والذي لا يمكن عده بدقة . هذه المرة الأولي التي يتجمع فيها مثل هذا العدد للصلاة في مكان واحد في العالم بعد صلوات الحج في مكة. لابد أن من بين هذا العدد الضخم عددا يصعب تقديره أيضا من المصريين المسيحيين الذين شاركوا المصريين المسلمين في الاحتفال بانتصار الثورة. لذلك قدرت استهلال الشيخ يوسف القرضاوي لخطبة الصلاة في الميدان بندائه علي المصريين جميعا ، مسلمين ومسيحيين . فانصهار المصريين بجميع أديانهم ومعتقداتهم من أهم سمات ثورة يناير . واقع الحال أن الأمر كان كذلك في كل ثورات المصريين عبر التاريخ . وكانت هذه السمة من أهم سمات ثورة 1919 كذلك، مثلما كان هناك ضابط مسيحي بين ثوار يوليو 1952 هو الملازم أول واصف لطفي حنين الذي شارك مع فصيلته في الكتيبة 13 في السيطرة علي معسكر الجيش في العباسية. من علامات يوم الجمعة الماضي أيضا عودة الشيخ يوسف القرضاوي المصري المقيم في قطر إلي قمة المشاركة في الحياة السياسية العامة في مصر بعد غياب سنوات طويلة عنها، وذلك بأن أم هذه الجماهير الحاشدة في صلاة الجمعة. وبالتالي فهو سجل في حياته أنه أول إمام يؤم ملايين البشر خارج مكة. وقد قدرت له أيضا دعاءه أن يمن الله عليه بالصلاة في المسجد الأقصي بالقدس، فلقد شعرت أنه يدعو للمسلمين جميعا بالدعاء ذاته. أذكر له هذا ولا أخفي اندهاشي من قفزه من الدوحة مباشرة ليعتلي ميدان التحرير، بينما كان الأولي أن يؤم شيخ الأزهر هذه الصلاة. فمن يحرك الأحداث بالتحرير؟ من يسمح ومن يمنع؟ انتبهوا.. أما عن الشعارات التي ترددت عالية في الميدان فأود أن أعلق علي شعارين منها وهما: تغيير الحكومة ، والتطهير . - فيما يتعلق بتغيير الحكومة فهذا أمر منطقي لأنه لا يمكن أن تغير نظاما دون أن تغير حكومته. وافق المجلس الأعلي للقوات المسلحة علي هذا المطلب من قبل عندما أعلن أنه سيشكل حكومة انتقالية تقوم بإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة. والتي سوف تتغير بعدها الحكومة مرة أخري بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد. وسمي المجلس العسكري الحكومة الحالية حكومة "تسيير أعمال"، وهي غير "الحكومة الانتقالية" التي يجب تشكيلها لإجراء الانتخابات. وهذا مبرر عدم تعيين وزراء في الوزارات الشاغرة كل هذا الوقت. ومن المنطقي أيضا أن يكون التغيير الوزاري الجديد تغييرا شاملا وجذريا بما يعبر عن بداية عصر جديد في مصر ، وليس مجرد عهد جديد. - أما عن شعار " التطهير " الذي تردد في الميدان فلا أخفي أن أمامه محاذير عديدة. سبق أن تردد هذا الشعار عقب ثورة يوليو 1952 وأدي إلي تجاوزات إنسانية وخروقات قانونية كثيرة جدا ، وكان من أهم أسباب فشل ثورة يوليو في أحد مبادئها المهمة وهو إقامة حياة ديموقراطية سليمة . فيما تبدو ثورة 25 يناير نموذجا علي ما يمكن تسميته ب " الثورة الديموقراطية "، أي الثورة التي قامت بها كل طبقات وفئات الشعب. أي أنها تعبير أقصي وأسمي عن مطالب ورغبات شعبية تماما. هذا هو جوهر مصطلح الديموقراطية. واذكر أيضا أن الرئيس أنور السادات قام بعملية تطهير بعد توليه الحكم بانقلابه الذي أطلق عليه " ثورة التصحيح " أو" ثورة 15 مايو " عام 1971 . وخلد " ثورته" بإطلاق اسمها علي الكوبري الشهير بين القاهرة والجيزة . وبهذه المناسبة أرجو أن تغير الحكومة الجديدة اسم هذا الكوبري الذي يشير بوضوح إلي عملية " تطهير " قام بها الرئيس الأسبق أنور السادات في صراع داخلي علي السلطة . إن عظمة الثورة هي في تحقيق العدالة وليس في تحقيق إقصاء لأي طرف من أطراف المجتمع . فمصر المستقبل تحتاج إلي كل خبرة يمكن أن تفيد الوطن . ولا يجب أن نعود إلي ما عرفته مصر أيضا بعد ثورة يوليو من إقامة ما سمي ب " محكمة الثورة "، والزج بالناس في السجون بتهم منها "العداء للثورة" و "إفساد الحياة السياسية " وغير ذلك . لا يجب أن تعود مصر إلي الوراء أبدا . ولم تقم ثورة 25 يناير من أجل هذه العودة . لأنها ثورة ، كما كتبت من قبل ، من أجل المستقبل . علينا التركيز في بناء نظام ديموقراطي سليم يعمل من أجل التقدم . وعلينا بناء حياة سياسية سليمة خالية من التطهير والإقصاء . فالإقصاء ضد مبدأ الديموقراطية تماما. لذلك هناك خطوة واجبة تحقق ما يطالب به شباب الثورة وما نطالب به أيضا . وهي ضرورة حل جميع الأحزاب السياسية القائمة . ووضع أسس علمية وديموقراطية سليمة لإقامة الأحزاب . ومن ثم يجب تغيير الدستور والقوانين المتعلقة بتكوين وعمل الأحزاب السياسية في مصر. أطالب بتغيير الدستور وليس تعديله كما هو الحاصل الآن . وسوف تستفيد الأحزاب الجديدة بالتأكيد من هذا الزخم الشبابي الذي قاد ثورة 25 يناير. وسوف تستفيد بالطبع من هذه الظاهرة التي كنا نجهلها والاكتشاف الجميل الذي طلع علينا وهو ثقافة شباب الثورة السياسية . ومن أهم نتائج هذه الثورة أنها " سيست " المجتمع . أصبحت أغلبية المجتمع علي وعي سياسي كان مفقودا، أصبحت هذه الأغلبية تتحدث في السياسة بل وتنخرط في ممارستها. لذا اتوقع أن تكون الأحزاب الجديدة جديدة بالفعل لأنها ستخرج من الشعب وتعبر عن اتجاهاته السياسية وترتبط بقاعدة شعبية حقيقية وليست مصنعة أو مزيفة كما شهدنا مع الأحزاب الحالية. أثبتت ثورة يناير الشعبية فشل ، ليس فقط الأحزاب الرسمية القائمة، ولكن فشل العملية السياسية الصورية التي كانت سائدة. ويجب أن يكفل الدستور والقوانين الجديدة حق كل مواطن مصري بالغ في ممارسة العمل السياسي بحرية . ومن بين المواطنين بالطبع هؤلاء الذين كانوا أعضاء في الحزب الوطني الذي يجب أن يتم حله مع حل باقي الأحزاب . لا إقصاء لأحد.. أكتب هذا وأنا لست عضوا في الحزب الوطني ولم انضم إليه ولا إلي أي حزب آخر. لكنني أؤمن بالتعبير الشهير الذي أطلقه فيلسوف التنوير الفرنسي "فولتير" : قد اختلف معك في الرأي و لكني مستعد أن أموت دفاعاً عن حقك في إبداء رأيك . لذا فالأهم هو تطهير الوطن من كل جرائم ومظاهر الفساد الذي انتشر كالسرطان في جسده. من أهم ما تنجزه ثورة يناير أن نبني وطنا نظيفا ماديا ومعنويا يشعر كل مواطن فيه بعمق الانتماء إليه . مصر الأم تعاقب المخطئ ولا تأكل أحدا من أبنائها .