أنا من جيل نشأ في مناخ يعرف أن للمال العام حرمة، ويعرف أن للقانون يداً لا تتأخر في القصاص من كل مرتش ولو ببضعة جنيهات، ومن كل من حقق ثروة غير مشروعة ولو لم تتجاوز المئات أو الآلاف من الجنيهات! جيل كان يشاهد رجلاً من أستاذنا مصطفي بهجت بدوي رحمه الله يصر وهو رئيس مؤسسة صحفية كبري علي أن يدفع من جيبه الخاص ثمن أي مكالمة شخصية يجريها من تليفون مكتبه. ثم عشنا وشفنا زمناً كانت فيه الرشوة تعتبر مكافأة، ونهب المال العام شطارة، وتحويل المؤسسات العامة إلي إقطاعيات خاصة هو قمة الإدارة الناجحة. زمن انتقلنا فيه من الفساد الصغير العابر إلي الفساد الكبير الفاجر حيث يتحول »المحظوظ« من حزب الفاسدين في يوم وليلة من خانة الذين علي باب الله إلي خانة المليونيرات أو المليارديرات حين »يلهف« ألفاً أو ألفين من الفدادين من أراضي الدولة بسعر لا يتجاوز المائتين من الجنيهات للفدان الذي يبيعه علي الفور بمليون جنيه. أو حين تكون حصيلته من الغنيمة مصنعاً ثمنه الحقيقي 005 مليون جنيه، يدفع فيه بالتقسيط المريح 002 مليون فقط علي أن يكون نصفها خارج العقد!! أو حين يتحول إلي قاتل بدرجة مستورد للحوم الفاسدة أو القمح غير الصالح للاستخدام الآدمي التي تدخل الأسواق بعد دفع »المعلوم«! كان زمناً للثراء بلا عقل والفساد بلا حدود، تفتح الآن ملفاته التي نرجو أن يتم الفصل فيها بسرعة، ونأمل أن تمتد الملاحقة لكل الفاسدين وحتي النهاية. فبهذا وحده تعود للدولة حقوقها المنهوبة، وتعود للشعب ثقته بأن العدالة ستقتص له وأن أحداً من الفاسدين لن يفلت من العقاب، بمن فيهم هؤلاء الذين سارعوا مع أول إنذار في الأزمة الراهنة للفرار بطائراتهم الخاصة، ومنهم من ملأها بسبائك الذهب التي أعدها لمثل هذه الأحوال، ومنهم من لم يكتف بكل الأرصدة في الخارج فحمل معه علي الطائرة أموالاً تزيد علي المليار جنيه هي »الفكة« التي كانت معه لأن البنوك كانت مغلقة. وبعض هذه الأموال وضعت تحت التحفظ في الدول التي وصل الفاسدون إليها، وهي والأموال المهربة إلي الخارج ستكون استعادتها للوطن المنهوب مهمة وطنية لأجهزة الحكم في المرحلة المقبلة. لقد جاء اليوم، وبدأت ساعة الحساب، ولا شك أن المتهم بريء حتي تثبت إدانته، ولكن رائحة الفساد لا يمكن إخفاؤها، وملفات الفاسدين جاهزة، وحزب الفساد إذا لم يتم التعامل معه بحسم وبالقانون، فإنه سيشكل خطراً علي المستقبل كما كان خطراً في السابق، وهو الآن يخوض حرباً يشيع فيها أن مطاردته ومحاكمته سوف تسيء لمناخ الاستثمار، وسوف تضر باقتصاد مصر!! يا سبحان الله.. وكأن الاستثمار عندهم لا يعيش إلا علي الفساد! وكأنهم لم يكونوا بفسادهم وإفسادهم العقبة الكبري أمام المستثمر الحقيقي الجاد، بما كانوا يفرضونه من إتاوات، وما ينهبونه من أراض يعيدون بيعها للمستثمرين بأعلي الأسعار، وما يفرضونه من احتكارات لسلع أساسية، وما يضعونه من قواعد للعب في كل الأسواق بما يضمن مصالحهم فقط وعلي حساب المستثمر الجاد، والأخطر أن يكون ذلك علي حساب الوطن.. ألم تغلق الحيتان الفاسدة آلاف المصانع للغزل والنسيج لكي تروج ما تستورده من زبالة البضائع الأجنبية حتي ولو كان الثمن القضاء علي واحدة من أهم الصناعات التي قام عليها اقتصاد مصر، ودفع ملايين العمال إلي عالم البطالة؟ ألم تبدد ثروة الوطن وتحولها إلي قصور ومنتجعات في الداخل أو أرصدة في الخارج بدلاً من أن تقيم المصانع وتخلق فرص العمل كما تفعل أي رأسمالية حقيقية؟ ألم تفرض قوانين الرشوة والمحسوبية التي أفقدت شباب مصر الثقة في كل شيء؟ لقد بدأت ساعة الحساب.. الذي نرجو أن يكون شاملاً وكاملاً، وأن توضع الحقائق أمام الرأي العام، وأن تبذل الجهود لاستعادة كل ما تم نهبه. بدأت ساعة الحساب، والملفات جاهزة، وسوف يساعدنا أن حزب الفساد كان قد بلغ به الغرور أن كان يلعب علي المكشوف، ويمارس فساده باعتباره السلوك الطبيعي الذي علينا أن نقبله صاغرين، حتي جاءته لحظة الحقيقة وساعة الحساب الذي نرجو أن يكون سريعاً، وحاسماً، وشاملاً لكل من أفسد في وطن لم يكن أبداً يستحق ما فعلوه به!!