هل التوغل في الوحل يمكن أن نعتبره تحليقاً في سماء البراعة والاقتدار؟ وهل يعد الانغماس في الانحطاط نجاحاً في التعبير عن خلجات النفوس وطبيعة الواقع المغموس في البذاءة والابتذال؟ وهل نحسب ان الاسراف في استعمال الألفاظ السوقية دليلاً علي براعة الكاتب وقدرته علي الغوص في واقعه أم انه علي العكس عجز عن السمو إلي جلال الأدب وجماله؟. فقد كثرت للأسف الألفاظ السوقية التي نصطدم بها في النصوص الأدبية من قص وسرد روائي وشعر.. عاميا كان أم فصيحا والأسئلة السالفة تفرض نفسها مضافا إليها السؤال الأبرز هل يعد استخدام هذه الألفاظ المبتذلة واللغة الساقطة ضرورة فنية أم جريمة أخلاقية؟؛؛ يري الناقد الكبير د. محمد عبد المطلب أن لغة الأدب يجب أن تكون ذات مستوي خاص ولا تنزل إلي الالفاظ المبتذلة والعبارات القبيحة والانحدار إلي مقولات لاتناسب الخلق ولاتناسب الدين ولا تناسب العادات والتقاليد، والشيء المؤسف أن بعض الأدباء الشبان يسعون إلي الانتشار بمثل هذه العبارات التي يتبادلها بعض الشباب بينهم علي سبيل التفكه، ولم يدرك هؤلاء انه منذ وجود الأدب في العالم ومنذ وجدت اللغة في الأرض وهناك مستويان للغة مستوي اللغة الأدبية بكل مواصفاتها في اختيار الكلمات وبناء الجمل والفقرات، وهناك مستوي الحياة اليومية العادية التي يتبادلها الناس بينهم دون قصد الأدب أو الإبداع والخلط بين هذين المستويين أساء للأدب إساءة بالغة وأستطيع أن أقول انني قرأت نصوصا قصصية وروائية وصل أصحابها بعبارات إلي العدوان علي كل المبادئ الدينية والاخلاقية ظنا منهم ان هذه هي الواقعية بينما الواقعية التي أعرفها هي واقعية الفن لا واقعية اللغة واقعية الابداع لا واقعية الابتذال، وقد أكثر الأدباء من هذه العبارات بعد ان شاهدوا أن المسلسلات التليفزيونية والافلام السينمائية استخدمت هذه الألفاظ البذيئة واكثرت فيها طلبا للرواج والانتشار.. لم يعرف هؤلاء أن نجيب محفوظ وصلوا إلي العالمية دون أن ينزل إلي هذا الأسلوب المنحط في التعبير والصياغة حتي انني استطيع أن أذكر لك كثيرا من الجمل التي استخدمها هؤلاء في نصوصهم الأدبية. ويواصل عبد المطلب حديثة قائلاً: ترجع هذه الظاهرة إلي القراء ودور النشر فيجب ان يكون لدور النشر رقابة فنية وادبية علي النصوص التي تنشرها لانه من المؤسف الآن أن النشر أصبح لمن يدفع دون النظر إلي مستوي هذا العمل.. كما ان من المؤسف أيضا أن بعض كبار النقاد يمتدحون هذه الأعمال ويروجون لها طلبا للشهرة أيضا وليتجمع الأدباء حولهم بينما الفئة الثالثة التي يجب ان تشارك في هذه العملية هم القراء أنفسهم يجب أن ينصرفوا عن هذه الأعمال. أما الناقد الكبير د.يوسف نوفل فيؤكد علي أن لغة الادب تتسم بسمات فنية وجمالية تساعد العمل الأدبي علي الوصول إلي عقل المتلقي ووجدانه وتسهم في توصيل رسالة المبدع إلي قارئه وتجعل العمل الأدبي ناجحا في تصوير مجتمعه. اي أن الابداع الأدبي لابد ان يكون لغة رفيعة المستوي تقوم علي بلاغة التعبير والتصوير والتخييل والرمز والايحاء وعدم المباشرة او التقريرية او الخطابية. ومعني هذا ان لغة الفنون الأدبية تختلف عن اللغة التداولية في حياتنا العامة والعلمية والاجتماعية فإذا جاز لرجل الشارع ان يخاطب زميله في الشارع خطاباً مباشراً متدنياً صريحاً فإنه لايجوز للمبدع أن يكون تعبيره صريحاً مباشراً مبتذلاً لان الله سبحانه وتعالي منح المبدع قدرات وملكات فنية تجعله يختبئ خلف الرمز والإيحاء فيؤدي المعني المؤلم في ثوب حريري وينتقد ويتهكم ويهجو دون سقوط اخلاقي. ومعني هذا ان الآداب العالمية منذ أقدم عصورها التاريخية لجأت إلي كل الطرق وصورت كل الصور والمعاني دون ابتذال أو سوقية او خدش للحياء او استخفاف بالقيم وبذلك فإن المقاييس الجمالية للابداع الأدبي تسقط من حسابها أي لغو او ابتذال او اصطدام بالمبادئ والقيم فيما يمكن ان يتفوه به رجل الشارع لزميله من ألفاظ او عبارات تخدش الحياء وترفضها المبادئ والقيم وحين يسقط الأدب في مستنقع الألفاظ البذيئة فإنه يكون أدباً ساقطاً. وتقول الروائية د.رشا سمير: احترف نجيب محفوظ الحديث بلغة الحارة، وكتب قصص الفتوات بتقنية تبوح بأسرار الأزقة، وعلي الرغم من عاميتها إلا أن نصوصه كانت مكتوبة بلغة مُتحفظة لا تمت بصلة للابتذال.. الأدب ليس سوي حالة تُعبر عن واقع يستمد منه الحكي المصداقية، إلا أنني لا أستصيغ فكرة إضافة كلمات أو جُمل مبتذلة في النصوص الأدبية كالتي يصفها الكتاب بأنها نقل حقيقي للمشهد الحالي والوصول إلي القارئ باللغة الدارجة التي يفهمها. ببساطة لأن الأدب قادر علي تغيير الواقع والعكس ليس صحيحاً، فالأدب يجب أن يُغير في المشهد ليُجمله ولا يزيده قبحا. اللغة المبتذلة زادت الواقع سوءا وأفرزت أجيالا سكنها العنف والقبح باسم الواقعية.. أتمني أن يُقدم الروائيون الأدب بشكل أكثر رقيا وأن يبتعدوا عن اللُغة الفجة المُبتذلة، وليعلموا أنهم قادرون بأقلامهم علي صبغ المجتمع بصبغة أخلاقية تبني ولا تهدم. فاجعة لغوية وفي الختام يقول الناقد الكبير د. محمد حسن عبد الله: اللغة أداة تواصل لا بديل عنها، وهي التي تحول «التجمع» إلي «مجتمع»، ومستويات استخدامها تختلف حسب الطبقة والثقافة ومزاج الشخص أو طبيعته، وفي الحكم بالقبول أو الرفض لبعض العبارات أو المفردات يتدخل الذوق العام، وهو لا يمكن إهماله، ولعل الكتابة الأدبية تخضع لظروف أخري، تلائم بين طبيعة المشهد والمتكلم، وتفاوت مستويات التلقي، بحيث يظل التعبير الأدبي صادرا عن الصدق وقادرا علي توصيله في حدود اللغة الجميلة «ولا أعني: المصنوعة»، فحين كتب محمد شكري رواية "الخبز الحافي" كانت "فاجعة لغوية" بقدر ما هي "بذاءة" عند قوم، وكانت تجربة خاصة وشجاعة عند آخرين!! في الكتاب الموسوعي الأشهر «كتاب الحيوان» للجاحظ، وهو مفكر وأديب طبيعي وطليعي في زمنه، وإلي اليوم، روي عن الإمام عليّ «كرم الله وجهه» ألفاظا وعبارات لا أستطيع كتابتها، وكان تعليق الإمام علي هذا الاستخدام «الفاجع بالنسبة لزماننا» أن هذه الألفاظ قد وجدت، وهي ما وجدت إلاّ لنقولها، ولكن ليس علي الإطلاق، فليس كل ما يُعلم يُقال، وليس كل ما يُقال جاء أوانه، وليس كل ما جاء أوانه حضر أهله، وهذه من حكم الإمام رضي الله عنه.