هنا سوف أحاول أن أساهم في تغيير الصورة الذهنية التي علقت بالشعب المصري والشعوب العربية وهي الصورة التي نقلتها وكالات الأخبار وشاهدها العالم. لقد كنت أحد الضباط المقاتلين في هذه الحرب. وعشت أحلم بأن أكشف الجانب الآخر لهذه الحرب. وهو صلابة الجندي والضابط المصري في مواجهة هذه المأساة. فإن تدمير سلاح الطيران المصري في الساعات الأولي للحرب كان يعني خسارة الحرب. فالحرب الحديثة تعتمد علي القوات الجوية اعتمادا كبيرا. وجيش يحارب في العراء بلا غطاء جوي يعني الخسارة. بدأت الحرب بالضربة الجوية الإسرائيلية المفاجئة التي وضعت الجيش المصري في وضع صعب من أول لحظة ورغم ذلك كان هناك قتال شرس علي خطوط المواجهة الرئيسية في منطقة أبو عجيلة. دافعت القوات المصرية وثبتت في مواقعها رغم عدم وجود غطاء جوي وواجهت القوات الإسرائيلية وأنزلت بها خسائر فادحة. وكانت الكارثة الثانية هي صدور أمر الانسحاب المفاجئ صباح 6 يونيو. فبدأت قوات خط الدفاع الأول في الانسحاب تحت ضغط العدو الذي سبب خسائر فادحة. إن الانسحاب تحت ضغط العدو البري وتحت قصف الطيران المستمر يعني الانهيار أو الإبادة هذا ما حدث. وأي جيش في العالم تعرض لما تعرض له الجيش المصري كانت النتيجة واحدة. لقد ترك الجيش المصري مواقعه بناء علي أوامر الانسحاب. هذا الأمر الذي أدي إلي الانهيار وإلي الصورة التي ظهر بها الجيش المصري في أجهزة الإعلام العالمية.. ورغم هذا الانهيار فإن هناك بطولات كالأساطير عشناها بأنفسنا. لقد قام الطيارون المصريون بطلعات فدائية ليس لها مثيل في التاريخ لمواجهة الهجوم الجوي الإسرائيلي المباغت. طلعوا والممرات مدمرة وسيطرة جوية فوق القواعد تمنع إقلاع أي طائرة.كذلك عدم وجود إنذار لأن الإنذار يحدد اتجاه ومكان وارتفاع الطائرات المهاجمة. قانونا الإقلاع في حالة وجود هجوم جوي علي القاعدة مستحيل وتمنعه كل قوانين الطيران ورغم ذلك أقلع الفدائيون الطيارون واستشهد عدد كبير منهم. لا يعرف أحد البطل نبيل شكري أو ممدوح الملط أو عوض حمدي أو فاروق الغزاوي أو تحسين زكي أو الأسطورة حسن شحاتة الذي سقطت طائرته في العريش. وهو مصاب إصابة بالغة. وقام أهلنا في العريش بإخفائه مدة أربعة شهور وأعطوه بطاقة شخصية مدنية جديدة. وعندما شددت القوات الإسرائيلية حصارها وبحثها عن الطيار المصري. أحضروا له عربة كارو ليعمل عليها عربجي. كانت القوات الإسرائيلية تبحث عنه في المنازل منزلا منزلا وهو يسعي بالعربة الكارو في شوارع العريش طول النهار وهم لا يتخيلون أبدا أن هذا العربجي هو الطيار الذي يبحثون عنه. ذهبوا به إلي المستشفي لعلاجه من الإصابة في قدمه. وعند حصار القوات الإسرائيلية للمستشفي والبحث عنه في كل حجرة. قاموا بتهريبه في عربة نقل الجثث من المستشفي ودفنوه في مقابر الفواخرية وفي المقبرة عاش عدة أيام بين الموتي.. وهنا قرر إسماعيل الخطابي الذي أدار عملية إخفائه كلها في بطولة نادرة.. وحفاظا عليه قرروا أن يهربوه إلي القاهرة. وقام الشيخ جرير العظيم شيخ مشايخ قبائل سيناء «رحمه الله « بوضع خطة لتهريبه. وبالفعل تم تهريبه إلي قناة السويس بواسطة الجمال ودليل من عرب سيناء. هذا نموذج لا بد أن نعيه أنها إبداع وشجاعة شعب وبطولة طيار نادره.. لهذا كان لا بد أن يتحقق النصر.. أبطال كثيرون قاوموا ولم يستسلموا أبدا.. وفي نفس الوقت كانت هناك قوة من الصاعقة داخل إسرائيل بقيادة «جلال هريدي» وكانت مهمتها تدمير المطارات الإسرائيلية. ولكن صدور الأوامر بالانسحاب يوم 6 يونيو صدر أيضا أمر بسحب هذه القوة في نفس الوقت. لا يعرف أحد عن معركة اللواء 14 مدرع بقيادة العميد وقتها « عبد المنعم واصل» الذي واجه القوات الإسرائيلية واشتبك معهم ودارت معركة عنيفة وأنزل بهم خسائر جسيمة وانسحب بقوته انسحابا تكتيكيا ناجحا إلي القناة. وقد أصيب عبد المنعم واصل في صدره من شظية ولكنه قرر أن يستمر علي رأس قوته. ووصل إلي القناة بعد أن كبد القوات الإسرائيلية خسائر فادحة.عندما علم بمطاردة القوات الإسرائيلية أرسل سرية دبابات بقيادة ابنه طارق واصل الذي كان يعمل تحت قياده والده ليعطل قوات العدو. وبالفعل قاوم طارق واصل القوات الإسرائيلية المتقدمة إلي القنطرة إلي أن دمرت دباباته تماما وعاد سيرا علي الأقدام وأنقذته دورية صاعقة كانت عائدة من المحور الشمالي بقيادة إبراهيم الرفاعي. عبد المنعم واصل دفع ابنه ليحمي قواته. لم يورثه الملايين ولا المليارات. دفعه للاستشهاد من أجل باقي القوة ومن أجل الوطن. كذلك معركة الفرقة الرابعة المدرعة التي صدر لها أمر انسحاب ثم صدرت أوامر أخري بعودتها إلي سيناء مرة أخري للقيام بهجوم مضاد ضد القوات الإسرائيلية المتقدمة. ورغم عدم وجود غطاء جوي ووجود خسائر فادحة فيها إلا إنها قامت بالهجوم المضاد وخاضت معارك عنيفة لتعطيل القوات الإسرائيلية المتقدمة. معارك وبطولات كأساطير خاضتها الفرقة الرابعة المدرعة ويشرفني إنني كنت أحد ضباطها.. لهذا فإن إرادة النصر ولدت من الهزيمة. لأن الهزيمة كانت هزيمة نظام والقوات المسلحة هي التي دفعت الثمن. كانت هذه الروح هي روح الجندي والضابط المصري وهي الروح التي كانت أساس إعادة البناء وتحقيق النصر بعد ذلك..