هناك تحديات تواجه تطبيق فلسفة اقتصاد السوق الاجتماعي في مصر ، بداية هل يمكن إقامة نظام السوق الاجتماعي في ظل التخلف الاقتصادي أي بدائية الإنتاج وضعف الإنتاجية وانخفاض إنتاجية العمل ؟ ولقد تبنت مصر منذ بداية التسعينيات فلسفة اقتصاد السوق الحر بدعم من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وبقية الجهات المانحة ، ولقد أخذنا بلا تحفظ بنظام السوق ونبذنا نهائيّاً أي تدخل اقتصادي مباشر من الدولة ، ورغم مرور هذه الفترة الطويلة منذ بداية الإصلاحات الاقتصادية في مصر، إلا أن الاقتصاد الوطني ما زال يتصف بتدني النمو وضعف الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والذي يتضح من مؤشرات الميزانية العامة والميزان التجاري ، وقصور السياسات الاقتصادية في التعامل مع التضخم ، والتراجع المستمر في سعر الصرف، بالإضافة إلي تحيز السياسات الاقتصادية ضد النمو الاقتصادي والتنمية الاجتماعية مما أدي إلي تضاعف مستويات الفقر وتنامي أعداد العاطلين عن العمل بشكل متسارع ومنهم نسبة كبيرة من المتعلمين ، بالإضافة إلي عجز الدولة بمفردها عن تزويد الفقراء بالخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات العامة الأساسية خاصة مع استمرار تزايد السكان ونمو الطلب علي كافة الخدمات العامة ، وقد ازداد الوضع تدهوراً مع تنامي التحديات والصعوبات الداخلية والخارجية التي تواجه الدولة والمجتمع المصري منذ ثورة 25 يناير وما تبعها من عدم استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي. - لقد أجمعت الفعاليات والدراسات الحديثة التي تناولت تقييم فلسفة وسياسات اقتصاد السوق الحر عند تطبيقها في الدول النامية علي أن نجاح هذه الفلسفة في تحقيق طموحات شعوب تلك الدول يتطلب تعزيز دور الدولة في النشاط الاقتصادي والاجتماعي عموماً، وتحديداً نحو تحقيق التوازن والنمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة، وهذا التغيير والدور الجديد للدولة مع الحفاظ علي سياسات اقتصاد السوق الحر يطلق عليه : فلسفة اقتصاد السوق الاجتماعي ، وهو اقتصاد مختلط يجمع الدولة والقطاع الخاص وهجين يجمع السوق والمجتمع يأخذ مقومات له من نظام السوق وأخري من نظام الرعاية والتنمية الاجتماعية إنه السوق المقننة اجتماعيّاً المدارة ديمقراطيّاً ، ولكن آلية تطبيقه تختلف بين دولة وأخري ، كانت المشكلة وما تزال مشكلة حسم الخيار الاقتصادي لكن هذا لا يعني أن الخيار لابد أن يكون أُحاديّاً بل علي العكس ، إنه يكون ولابد خيارًا مركّباً أو جمعيّاً بين آلية السوق التنافسية الربحية وغائية التنمية البشرية والرفاهية الاجتماعية ، والمتأمل للخطاب الاقتصادي للدولة المصرية الآن يدرك أننا نتجه إلي اتباع هذه الفلسفة. - إلا أنه يجب الإشارة أن هناك تحديات تواجه تطبيق فلسفة اقتصاد السوق الاجتماعي في مصر ، بداية هل يمكن إقامة نظام السوق الاجتماعي في ظل التخلف الاقتصادي أي بدائية الإنتاج وضعف الإنتاجية وانخفاض إنتاجية العمل ؟ أم ان نظام السوق الاجتماعي لا يتحقق إلا في ظل الاقتصاد المتقدم والإنتاج المتطور والإنتاجية العالية ؟ أم أنه يمكن النظر إلي نظام السوق الاجتماعي بوصفه نظاماً تطوريّاً ديناميكيّاً أي مشروع إنمائي يتحقق باضطراد ؟ - إن البلدان الرأسمالية الصناعية المتطورة في أوروبا وكندا ودول أخري ، والتي تبنت أحزابها الاشتراكية الديمقراطية لدي توليها السلطة نظم الرفاه الاجتماعي انطلقت من قاعدة اقتصادية متطورة باستمرار بفضل التجديد التكنولوجي ورفع الإنتاجية باضطراد ، مما مكنها من أن توفر لموطنيها الرعاية والرفاه الاجتماعيين بأنماط متطورة ودرجات متزايدة أيضاً، لقد تمكنت تلك الأنظمة من إقامة دولة الرفاه الاجتماعي بفضل قدرتها علي تحقيق فائض اقتصادي عالٍ وجباية ضرائب تصاعدية ضخمة ، وتقاسم أرباح الصناعة والزراعة والخدمات وفائض العملية الاقتصادية الإجمالية بين أرباب الصناعة والعمال فضلاً عن الإنفاق الاجتماعي متعدد المرافق والخدمات. - لكن هذه ليست حالة مصر وسائر البلدان النامية حيث إن اقتصاداتها ضعيفة بحكم تخصصها في أنماط الإنتاج الأولي ، وعجزها عن توليد قيم مضافة ذات شأن فضلاً عن جني ضرائب فعالة وكافية لتمويل سياسات التنمية الاجتماعية وبرامج التنمية التعليمية والصحية والسكنية وخدمات ماء الشرب والطاقة والكهرباء والثقافة ما العمل إذاً ؟ هذا ما سوف نناقشه في المقالات القادمة.