كنت قد قررت ان أكتب اليوم مقالا جديدا بعيدا عن حادث الإسكندرية الذي داومت علي الكتابة عنه طوال الأسبوع الماضي -وبالفعل كتبت هذا المقال الجديد استعدادا للنشر اليوم، ولكن عندما تابعت نشرات الاخبار وصحف الأمس، توقفت تماما عند مشهد طابور طويل من المصريين يقف عند كورنيش ميناء الإسكندرية، وفي ذات المنطقة التي تضم كنيسة القديسين.. طابور طويل من الشباب المسيحيين والمسلمين يحملون المصاحف، والصلبان، والأناجيل،ولافتات تحمل عبارات وطنية ثاقبة تخترق العقل، وتنفذ إلي المشاعر، دون افتعال أو علياء أو أي نوع من الادعاء، مع انها عبارات قليلة الكلمات إلي حد لا يصدق.. منها، علي سبيل المثال، قبطي+مسلم= مصري.. ثلاث كلمات ولكنها تقول ما يوازي ثلاثة مجلدات أو أكثر! وفي القاهرة وقف الشبان والشابات وكبار السن، عند ضريح سعد زغلول بحي المنيرة، وعند تمثاله علي جانب كوبري قصر النيل، ولا أتصور هنا وجود اتفاق بين أولئك وهؤلاء، ولكنه الحس الوطني -أو الغرائزي- العميق الذي جعل هذا الفريق، وذاك يتوجهون إلي ذات الزعيم المصري الذي استطاع ان يصهر عنصري الأمة في بوتقة هذا الوطن العريق والعظيم! لم يكن هناك تنظيم طليعي، أو هيئة تحرير، أو حتي حزب وطني.. لم يكن هناك أي تنظيم سياسي من أي نوع، وأي انتماء أو عقائد -وراء هذا التحرك الواعي وشديد الانتماء والاحساس بالمسئولية.. انها ذات الروح التي تحركت بعد الهزيمة العسكرية تطالب بحتمية تحقيق النصر، وذات الروح التي تحركت لدفع القيادة السياسية لشن حرب الاستنزاف.. ومن بعدها حرب أكتوبر، ومن بعد كل هذه الحروب تحركت لدفع عملية السلام حتي نتفرغ لإعادة البناء، ثم كان ان تحركت لمواجهة الإرهاب بعد اغتيال السادات، وتحركت للاجماع علي اختيار مبارك بعد السادات.. ان هذه الروح هي القوة الحقيقية التي تضبط وتتحكم في مسارنا، وان شعبا بهذه الروح وهذه المقدرة يستحق كل الحريات والمسئوليات فهو شعب واع ويقظ، وأكثر من هذا فانه يستحق ذلك الخلود الذي انتزعه باقتدار من براثن كل المحن التي تعرض لها منذ فجر التاريخ.. ومع ذلك وقف شامخا.. بحكمة تصل إلي حد العبقرية، وتمكّن يصل إلي حد تطويع المستحيل، وصبر يتضاءل امامه صبر أيوب.. وهامة ظلت مرتفعة رغم كل المصائب والمحن التي اختصنا بها القدر.. شعب يستحق كل هذا، ولو ان البعض منا لا يدركون!