«حتي إذا تم تستيف الورق بفضل الكهنة الأعظم، يحق لك أن تخرج مثل الشعرة من العجين وتهتف بملء الفم: «تحيا مصر» كما هتف الناهب الأعظم حسين سالم..» من العبارات الحاكمة التي أسمعها تتردد بصيغ مختلفة «تستيف الورق» «دا ستف ورقه كويس» «ما تستغربش من الحكم، القاضي بيحكم من الورق، والورق اتستف كويس..» تبدو كلمة «تستيف» شديدة الدلالة علي أمور عديدة، إنها أقرب إلي معني «الترتيب» ولكنها تتجاوز الترتيب إلي ما هو أدق وأشمل، إنها تعني بشكل ما مراعاة مضمون الورق بما يخالف الواقع لتمرير أمور معينة في جوهرها مخالفة للقانون والأعراف. للورق في مصر شأن عظيم، إنه الوسيلة الأقدم لقضاء حاجات الخلق وشئون الحياة، من زواج وطلاق وميلاد وموت وتوريث وبيع وشراء، ويندر أن نجد حضارة إنسانية احتفظت بكل هذا الكم من الورق منذ فجر تاريخ الإنسانية، الورق هنا كلمة مجازية، فالورق اخترع في الصين، ولكن مصر عرفت الكتابة علي الحجر والعظام ثم ابتكرت أوراق البردي، وتحتفظ قرية الفنانين بدير المدينة بعدد هائل من الوثائق التي تخص المعاملات اليومية وعلاقات الجوار، القرية اكتشفها العلماء الفرنسيون عام ثلاثة من القرن الماضي، كثافة ما وصل إلينا يرجع إلي العمق التاريخي للجهاز البيروقراطي لدولة هي الأقدم في التاريخ الإنساني علي الإطلاق، أساسها نهر النيل الذي كان يقتضي سلطة استثنائية لضبطه والسيطرة علي جموحه خلال سنوات الفيضان العالي وخطره خلال سنوات الشح المائي، من هنا تجيء أهمية الدولة لمصر فمصر بدون دولة قوية تسقط وتهن، وإذا اختفت الدولة تختفي مصر نفسها، كثيراً ما ترتبط كلمة «بيروقراطية» بالمعاني السلبية رغم أنها تعني النظام، وهذه البيروقراطية حمت مصر من أخطار عديدة، خاصة في فترات تغول الحاكم وخروجه علي السياق المنطقي، ولعل محادثات كامب ديفيد نموذج علي ذلك، عندما تصدي الوزير العظيم اسماعيل فهمي لسياسة السادات التي كانت تستهدف الالتفاف علي القوانين والنظم الدولية، وهذا ما أدي إلي استقالة الوزير التالي محمد ابراهيم كامل وهو زميل للسادات في السجن خلال نظر قضية اغتيال أمين عثمان الذي كان موالياً للانجليز، غير أن البيروقراطية تتبع الأحوال العامة، فإذا بدأ الفساد من رأس السمكة كما يقول المثل الروسي يسري إلي سائر أوصال الجسد، وهذا ما رأيناه في العقود الأخيرة منذ بداية الانفتاح العشوائي في منتصف السبعينيات. عرفت نماذج عديدة من القادرين علي تستيف الورق، وزير في النظام الأسبق، عُرف بالذكاء، اختار شخصية فريدة، ضابط في الرقابة الإدارية كان مسئولاً عن الوزارة خلال خدمته في الرقابة الإدارية، اختاره الوزير مسئولاً عن الإدارة في وزارته، وكان إذا ذُكر اسمه يلحقه الوصف التالي «دا معروف بقدرته علي تستيف الورق»، وعندما وقع حادث فاجع في إحدي المنشآت التابعة راح ضحيته أكثر من ستين نابغاً في الوجه القلبي، توقع كثيرون أن يكون ذلك سبباً للإطاحة بالوزير الذي كان يحظي بحماية شخصية أدت إلي بقائه ما يقارب الربع قرن، في ذلك الوقت سمعت بسفر المسئول الإداري إلي المحافظة وقيل، إنه قام بترتيب الأوضاع بحيث تخلو المسئولية تماماً عن الوزير، أمضي أسبوعاً في المحافظة، عاد بعد أن أجاد تستيف الورق. عندما أصبحت عضواً بالمجلس الأعلي للصحافة، لاحظت وجود شخص مهيب الطلعة، تبدو ملامحه وكأنها نحتت من حجر الديوريت الذي صيغ منه تمثال واحد فقط وصلنا من العصور القديمة الفرعون خفرع، يوجد في المتحف المصري، كنت دائم التأمل له وعندما عرفت اسمه اكتشفت أنني أعرفه لفرادة اسمه، هذا الرجل كان مستشاراً بمجلس مهمته التشريع، كان مستمراً رغم تغير الرئاسات للمجلس، حافظاً للأسرار، قادراً علي تستيف الورق، مثل هذه الشخصيات موجودة في كل مؤسسة مصرية، يذكرني ذلك بموقع قديم في المعابد المصرية، إنه الكاهن الأعظم، طبعاً مع التحفظ في المقارنة، الكاهن الأعظم كان حافظاً محافظاً علي جوهر العقيدة والعلوم، هو الوحيد الذي يدخل مع الفرعون إلي آخر منطقة في المعبد، قدس الأقداس، أما الكاهن الأعظم في البيروقراطية المصرية فهو الضروري للوزير أو الوزير الأول أو حتي الرئيس، إنه عالم متين بدهاليز البيروقراطية، وبالنظم أيضاً، خبير بما يجب أن يكتب وما لا يُكتب، خاصة التأشيرات وللتأشيرات في تستيف الورق شأن عظيم، المسئول السياسي أي الوزير مثلاً، يجب ألا يؤشر «موافق» إلا بعد المرور بجميع الإجراءات التي يدبرها ويرتبها الكاهن الأعظم، وفي حالات الحساسية يُنصح بتأشيرات تفهم علي أكثر من وجه مثل «للنظر»، «للعرض»، «لإيضاح الموقف» وفي حالات القلقلة والخطر يقوم الكاهن الأعظم بتستيف الورق، أي إخفاء كل ما يمكن أن يقود إلي الإدانة، لأن القضاء عندما ينظر إلي الاتهامات لن يتعامل إلا مع الورق، الورق ولا غير، أما الظروف العامة، واتجاهات الرأي العام فلا موضع لها حتي لو كانت هناك ظروف تهدد كيان الدولة، المهم الورق، الورق، في إحدي المؤسسات كان الكاهن الأعظم سيدة قوية، جافة المنظر، تمسك بالإدارات المختلفة، خاصة الحسابات، وعندما حانت اللحظة الحاسمة التي يتبدل فيها رئيس المؤسسة عرف كل العاملين أنها خرجت بحقيبة تضم كل الورق الحساس، وخرج رئيس المؤسسة كالشعرة من العجين بفضل الكاهنة الأعظم. الخروج مثل الشعرة من العجين، هو التعبير المرادف لنجاح تستيف الورق، في عصور التدهور والفساد ليس مهماً أن تكون ذا كفاءة، أو عفيفاً وشريفاً، المهم أن تجيد تستيف الورق وعندما تخرج كالشعرة من العجين يحق لك أن تهتف كما هتف الناهب الأعظم حسين سالم: تحيا مصر. عبارات حاكمة «كلمه.. الله يخليك» من العبارات الحاكمة في الواقع المصري خلال الحقب الاخيرة «كلمه والنبي..» أو «كلمه لي..» من ينطق هو صاحب الحاجة، ومن يستمع هو صاحب الامكانية في أن يكلم المسئول الذي ربما يكون موظفا صغيراً، أو وزيرا، أو مسئولا كبيرا، هذه العبارة تجسد شخصنة الأمور، وضعف النظام والقواعد المعمول بها، وفي نفس الوقت تعتبر شكلا من الوساطة، أي التوسط بين شخص وشخص، شخص لا يملك الامكانية أو السلطة وآخر يمتلك ناصيتها، باختصار تعني غياب النظام، غياب النظام له درجات، مما أذكره أن النظام في الخمسينيات والستينيات كان منحازاً للأغلبية، خاصة الطبقات غير القادرة، وكان لديه رؤية من خلال الخطط الخمسية «خمس سنوات» بالنسبة لمختلف المجالات، خاصة تشغيل الشباب، وصل الأمر إلي أنه في نهاية الخطة الخمسية الاولي لم يكن هناك في مصر عاطل واحد، خاصة من خريجي مراحل التعليم المختلفة سواء الجامعية أو المتوسطة، والخطة الاولي هي الوحيدة التي انجزت وكان رئيس الوزراء علي صبري، الخطة الثانية قصمت بهزيمة يونيو 1967،كان هناك أمل توفره خطة القوي العاملة التي يسخر البعض منها الآن، كان التزام الدولة بتعيين الخريجين يوفر قدرا من الامن الاجتماعي، بدأ الخطر عندما تخلت الدولة عن هذا المبدأ مع بداية الانفتاح الساداتي المشئوم، والذي اقام الاس للفساد الذي استفحل فيما تلا ذلك، ثم وصل الأمرإلي حد الاهمال التام للاجيال الجديدة وأنتج هذا إحساسا بعدم الجدوي، فالشاب الذي تجتهد اسرته لتعليمه وتأمل في حصوله علي دخل يفيه الحد الأدني من حاجته اصبح الطريق أمامه مسدوداً، كان التصرف فاجرا، لم يضع في نظره وحساباته خطورة ما يمكن ان يترتب علي ذلك، كان نظام القوي العاملة يوفر العمل في حده الأدني، والبعض يسخرون منه الآن، ولكنه كان عنصراً من عناصر الاستقرار رغم جوانب القصور فيه، حتي لو اعتبرناه موازيا لما يعرف بإعانة البطالة في الغرب، الغرب الرأسمالي، هناك يتقاضي العاطل قدرا من المال يكفل له الحد الإنساني من الحياة، نظامنا الاجتماعي طرح ذلك تماما، سد الابواب امام اجيال كاملة فكانت النتيجة تعاظم دور القوي الدينية المتطرفة، وحالة العدمية التي تمكنت من الشباب الانقياء بعد ثورة يناير التي تعاظم دورهم فيها، ثم فوجئوا بكمال الجنزوري وعمرو موسي يتصدران المشهد ويرسمان خطط المستقبل، حتي الآن ماتزال الرؤية التي تأسست منذ بدء الانفتاح الساداتي - الذي يعمل لمصلحة تشكيل عصابي ومغلق ومحدد- قائمة، وهذا يتناقض مع وجود رئيس طاهر اليد ، مجرد وجوده لا يطمئن الذين اعتادوا النهب . وهذا ما يجب وضع حد له وتأسيس رؤية جديدة تضع في اعتبارها مصلحة الاغلبية للشباب وللاجيال الجديدة، هذا ما كان يجب أن يحدث بعد ثورتين عظيمتين من أعظم ماقام به شعب في العالم، لكن خيبة الأمل واستمرار الرؤي القديمة أديا إلي احباط شامل، إلي يأس أخطر، مازال منطق او قانون «كلمه والنبي» قائما، لقد تدرج المستوي الذي يتم فيه استخدام هذه الجملة، اذكر في الخمسينيات أن الوالد رحمه الله وكان من احباب سيدنا ومولانا الحسين، لم يخلف فيه صلاة الفجر حاضراً في أي يوم من الأيام، كان مريدو الحسين خليطا من أطياف المجتمع، اللواء بالجيش أو الشرطة يصلي إلي جوار الموظف الصغير أو الحر في او الصوفي المتبتل، كان اهالي بلدتنا يقصدون الوالد باعتباره مقيما في مصر، أي القاهرة التي يطلق عليها اسم الوطن كله، لم أعرف وضعا مشابها الا في سوريا، اذ يكون المقصود بالشام دمشق العاصمة، وربما كان هذا تأثيرا من العصر المملوكي، عندما كان الشام كله ولاية تتبع السلطان المملوكي، في نظر الأهل بالريف أن المقيم في مصر لديه امكانيات اكثر، الا يقيم في نفس المدينة التي توجد بها مقار الحكومة؟، أذكر في التسعينيات أنني كنت أتحدث إلي الرئيس الأسبق في معرض الكتاب، وأذيع التسجيل مساء، في الليلة نفسها اتصل بي أحد المعارف من اسيوط، طلب مني أن اكلم الريس لأن ابنه بلا عمل منذ تخرجه في كلية العلوم، قلت له انني لا أملك وسيلة للحديث إلي الرئيس، لست من الدائرة المقربة، والاتصال بالرئيس لا يدخل في امكانياتي، قال معاتبا: «يار جل.. انا شفتك بعيني بتكلمه في التليفزيون..» كان الرجل صادقا في تصوره، وكنت صادقاً فيما قلت، أعرف ان الوالد تمكن من مساعدة كثيرين بسبب تردده علي مسجد وضريح مولانا، بعد انتهاء الصلاة يتحدث إلي من يجاوره، مسئولا او طبيبا شهيرا ويكلمه «سي» من الناس، فيصغي جاره وزميله في حب الحسين وقد يقضي له الأمر، في النصف قرن الأخير تبدلت الاحوال وتغيرت المقاييس، إذا توافرت الامكانية لكي يقدم شخص طالب علي الكلام مع المطلوب منه صاحب الإمكانية، فإن المتمكن لن يستجيب لأن الطالب جاره في الصلاة أو بلدياته أو من معارفه أو حتي من أقاربه، لكن الاستجابة مشروطة بالمقابل، يمكن أن يحدث الكلام علي شخص متفوق، عبقري، كل المرجو فرصة عمل تتناسب مع امكانياته، هذا ليس مهماً، المهم ما الذي سيكون في المقابل، ماذا بعد الاستجابة للكلام، كلام يقابله كلام وإلا فلا، تزايد الأمر بعد ثقافة التوريث التي ترسخت وشاعت خلال الاربعين عاما الأخيرة، وللحق فإن لها جذورها في النظام السياسي، أنور السادات جاء بما يشبه التوريث، فالرئيس جمال عبدالناصر اختاره علي سلم الطائرة نائبا له وهو في الطريق إلي روسيا للعلاج، وعندما كان الفريق طيار محمد حسني مبارك متجها لتلبية موعد مع الرئيس السادات كان أقصي ما يحلم به أن يعين سفيرا في لندن أو محافظا بحيث يمكنه ادخار بعض المال الذي يعين الولدين علي الحياة، بتعبيره هو كان يتطلع إلي حياة «الاكسلنسات السفراء» ويبدو انه فاتح السادات في ذلك أو لمح اليه، وطبعا للرواية التي علمت بها، تراجع الرئيس السادات إلي الخلف مقهقها، قال «سفير ايه ومحافظ ايه..دا انا عايزك نائب ليّا». جري الأمر دون أن يتكلم أحد لمصلحة حسني مبارك، ولكن الأمر كان يحكمه قانون آخر موروث من العصر المملوكي، من يعرف هذا العصر جيدا سوف يلحظ أن أي سلطان يختار نائباً له في منصب كبير، أو إذا لم يكن له ولد يخلفه يجمع مماليكه بعد وفاته علي اختيار أتفه وأضعف شخصية من الامراء الكبار لكي يتولي السلطنة، وذلك درءاً للصراعات الدموية الفورية، فقد جرت العادة علي أن يرث السلطنة ابن السلطان الراحل حتي لو كان في اللفة وعمره ستة شهور «كما جري مع ابن السلطان مؤيد شيخ الحمدي، الذي رويت ما جري له ومعه في يوميات الاخبار»، إلي أن يتمكن أمير قوي آخر من غير مماليك السلطان المتوفي أو المعزول «بتوعه» من ركوب الحكم، سوف نلحظ هذه القيمة مستمرة في الواقع المعاصر، فعندما اختار جمال عبدالناصر خليفته كنائب لم يكن قد تبقي ممن يحيطون به أحد، لكل منهم سبب، خاصة بعد القرارات الاشتراكية في عام 1961 وخروج بعض اعضاء مجلس قيادة الثورة وكان بعضهم يمينيا محافظا، أو قريبا من الاخوان، لم يتبق بالقرب منه الا انور السادات الذي عرف عنه حسن الطاعة وأنه يسمع الكلام، والغريب أنه كان معزولا من منصبه قبل تعيينه بشهور لأنه أقدم علي وضع يده علي فيللا الموجي بشارع الهرم، لم يفت الشعب المصري الذكي ذلك، فبعد أن تولي السادات الحكم راجت نكتة تقول ان علامة الصلاة علي جبهته «الزبيبة» ليست بسبب السجود ولكن لأنه كلما اقدم علي الكلام، يمد عبدالناصر يده إلي قورته قائلا «اسكت انت». يشاء القدر في العصر الحديث أو العصر المملوكي، أن أخطر التحولات وأطول مدد الحكم كانت من نصيب الذين توسم فيهم من ساعدوهم علي الولاية والحكم علامات الضعف والطاعة واشتهروا بأنهم يسمعون الكلام، عندما أجمع أمراء المماليك علي اختيار قنصوه الغوري رفض وبكي وخلع العمامة والقي بها علي الارض وهذه علامة علي الغضب العظيم، قال لهم انه يخشي أن يظلم أحد المسلمين علي سبيل الخطأ وهو لايدري، ثم انه رجل كبير السن وليس لديه أي رغبة في السلطنة، ثم قبل تحت الضغط بشروط، الا يستمر اكثر من شهرين، وبعد أن ذاق حلاوة السلطنة بدأ تصفية كل أمير قد يرث السلطة من بعده واستمر سبعة عشر عاما إلي أن قتل شهيداً شمال حلب وهو يقاتل ضد الغازي سليم الأول، كنت أظن ان منطق «كلمه» مقصور علي العلاقات في المجتمع المصري، خاصة مع تزايد شخصية الدولة مع ظهور مشروع التوريث واحكام الدائرة الضيقة حول الرئيس الا انني اكتشفت أن هذا المنطق موجود في العلاقات العربية، في عام 1985، زرت تونس للقاء ياسر عرفات، كنا مجموعة من الصحفيين والكتاب، الراحلان مصطفي نبيل وعبدالله امام، والزملاء يوسف القعيد والدكتور سامي منصور، لم أعرف زعيما عربيا عاني ضغوط التناقضات العربية مثل ياسر عرفات، في ذلك الوقت كان النظام الليبي يتخذ موقفا عنيفا من منظمة التحرير ويسعي إلي تخريبها، وعندما فتح الحديث في الموضوع، نظر ابوعمار إلي عبدالله امام الذي كانت تربطه علاقة وثيقة بالنظام الليبي.. فوجئت به يقول له : «انت استاذ عبدالله.. لك صلات بهم.. ما تكلمهم لاصلاح الامور..» بهجة الموت ! الأحد: هل يبعث الموت علي البهجة؟ هذا ما تجسد في وداع الفنانة المبهجة، الفياضة بالحياة والموهبة، صباح، لعل وداعها سيدخل ذاكرة الإنسانية باعتباره أول تشييع يتم علي أنغام الدبكة وبالرقص، كيف أتقن اللبنانيون العباقرة ترقيص النعش؟، لا أدري، لعله التابوت الراقص الوحيد في تاريخ الإنسانية، أما الأنغام فكانت من عزف حي لفرقة موسيقي الجيش اللبناني، لحظة تثبت حيوية وموهبة هذا الشعب العظيم وتقديمه درساً علي التعلق بالحياة وتحدي الموت، قهر العدم، أوصت الفنانة ألا يبكي أحد، أن يبتهجوا وأن يرقصوا، وامتثل الشعب الجميل، ليس شكلياً، بل من القلب، لذلك كانت المهابة فريدة، نادرة، لم أر صباح إلا مرة واحدة في أحد الأفراح التي لم أعد أذكر الداعي إليها، كانت في مرحلة متقدمة في العمر، غير أنها تحركت بين المناضد كفراشة وكلما مرت بمجموعة من المدعوين تعالي التصفيق وعبارات الحب النابعة من القلب، غير أن صوتها جزء من ذاكرتي الشعورية واللاشعورية خاصة في المرحلة الأولي، أغاني مثل «بعدين معاك» و«مال الهوي يا امه..» تتردد عندي بدون أن أسمعها، في مراحلها الأخيرة لا أستعيد إلا «ساعات.. ساعات» التي كتب كلماتها أكبر شعراء العربية الآن، الأبنودي، والتي تعتبر نصاً شاعرياً رفيعاً أعاد صباح إلي الصدارة وكان أداؤها مبهراً، قادراً، كانت حياتها صاخبة، عاصفة، ولكن غلب عليها الإبداع وإسعاد الآخرين، لذلك لا أذكرها إلا مبتسمة، مبتهجة حتي عند تشييع الآلاف لها والملايين الذين تابعوا المشهد الفريد بإعجاب وسعادة حقيقية.