في نوبة حراسته لقصر شارليتنبرج »التقليد الألماني لقصر فرساي بباريس« وكان الروائي عبدالحكيم قاسم يعمل حارسا ليليا »أوائل الثمانينيات« وفي الوقت نفسه يعد رسالته للدكتوراة حول »ادباء عصر عبدالناصر«. في نوبة حراسته تلك كان كثيرا ما يقضي لياليه في كتابة الرسائل الي الاصدقاء بالقاهرة. ومن المؤكد انه كان يكتب الرسائل لنفسه اولا فهي دواء »للغربة« يهرب فيها من احاسيس الوحشة فيضع نفسه في قلب المودة والتواصل مع الأهل والأصدقاء وينتظر رسائلهم رسالة رسالة.. يرقمها ويطالب الأصدقاء بترقيمها واحدة بعد الاخري... يكتب الي ادوار الخراط رسالتين ثم يطالبه بردين. هكذا كان يداوي الغربة بالرسائل.. لكن »هوي الكتابة« في ظني هو السبب الحقيقي وراء تلك العناية الفائقة بالرسائل سواء علي مستوي »اللغة« أو علي مستوي النقاش الدائر خلالها.. انه يكتب ليتنفس ويعيش، وليكتشف روحه ويتأمل ذاته وطريقته في التفكير.. فالكتابة أولا وأخيرا هي محاولة يومية للفهم.. هكذا كانت غالبية رسائل عبدالحكيم قاسم الي نقاد وباحثين في الادب والي أدباء جيله ومؤكدا انه كان يعي اهمية هذه الرسائل تاريخيا فهو يصفها بأنها »الجديرة بأن تسجل وتحفظ« احيانا يطالب الاصدقاء برد رسائله أو نسخ صور منها، علي حلم ان يقوم بجمعها يوما ما في كتاب! لكن عبدالحكيم قاسم مات عام »1990« دون ان يجمع رسائله المهمة تلك وكان لابد ان ننتظر لاكثر من 20 عاما ليأتي الزميل محمد شعير ويقوم بتجميع هذه الرسائل وقراءتها في كتاب ممتع ومهم »كتابات نوبة الحراسة رسائل عبدالحكيم قاسم« الصادر قبل ايام عن دار ميريت. في مقدمة الكتاب يمسك محمد شعير جوهر شخصية عبدالحكيم قاسم فيصفه بالخارج دائما، وان »محاولته للخروج« لم تكن مجرد عنوان لرواية كتبها بقدر ما كانت تلخيصا لمسيرة حياته وأزمته الشخصية في البحث الدائم عن نفسه في الشيء ونقيضه... يخرج شعير من الخاص الي العام ليقرأ في الرسائل مسيرة جيل كامل من الادباء وتقلبات المناخ السياسي الذي عاصروه ما بين الستينيات والسبعينيات. مقدمة شعير أشبه بنص مستقل ومفتوح يسمح بنقاشات عديدة واسئلة مختلفة حول »الهوية، الثقافة الغربية، ادب الاعترافات والرسائل«. 63 رسالة يضمها الكتاب تصح عن عمق عبدالحكيم قاسم »باللغة«وعمق علاقته »بالكتابة« ويقول بإحدي الرسائل »انا استمتع بالكتابة، واتذوق الكلمة وحينما اكتب انتشي ولاستقر علي مكتبي ابداً اتمشي واهتف بالكلمات وأرقص«. في ندوة (أدباء في المنفي) بمهرجان الامارات بدبي العام الماضي كان الادباء علي المنصة من »صمويل شمعون الي ايمان مرسال وامجد ناصر« يشرحون كيف قاموا بتدريب انفسهم علي التخلص من كل صور »النوستالجيا«... كان ثمة شعور سلبي مصوب تجاه تلك »النوستالجيا« »الرومانسية« »التقليدية« »القديمة« معلنين جميعا تجاوزهم لها خاصة في الكتابة. رسائل عبدالحكيم قاسم مليئة بالحنين و»النوستالجيا« لكن بطريقة تفكير مختلفة دفع أثمانا للوصول اليها.. وكان كلما زاد الحنين عليه زاد اصراره علي البقاء في المانيا مرددا انه لو عادت به الايام سيعاود نفس الشيء برغم ان سؤال »لماذا سافر؟« ظل هو السؤال الأكثر صعوبة لديه.. كل الاجابات عليه صحيحة وكل الاجابات خطأ! هو عبدالحكيم قاسم صاحب »أيام الانسان السبعة«، »قدر الغرف المقبضة«، »المهدي«، »طرف من خبر الآخرة«، »محاولة للخروج« وصاحب الرسائل الممتعة والمهمة.