انطولوجيا مصطلح غربي يعني مختارات. ويطلق عادة علي مختارات يجمعها كتاب في الادب من الشعر أو القصة.. ويطلق ايضا علي مختارات من المؤلفات الموسيقية أو الاغاني. شاكر عبدالحميد بلدياتي من اسيوط هو الاستاذ في اكاديمية الفنون والعميد الاسبق للمعهد العالي للنقد والفني والمهتم بالدراسات النفسية في الإبداع الفني.. فضلا عن الدراسات النقدية في الفنون التشكيلية.. وهو هنا يقف عندنا علي حدة حاليا في البحث العلمي في الفنون. وعندنا اقصد بها مصر والعالم العربي.. فالبحث العلمي في هذين المجالين عند العرب الاحياء فقير ويمكن ان يكون مجدبا ايضا بما يتناسب مع الحضيض المعيش فيه.. واقرب دليل علي ما اقول هو ان الكتاب الضخم الذي اصدره شاكر عبدالحميد في بداية هذا العام 0102 لم يلق كالعادة ما يستحقه من دراسة او نقد.. مناسبة هذا الكلام هو هذا الكتاب الذي اعنيه وله عنوان رئيس »الفن والغرابة« وعنوان فرعي توضيحي. مقدمة من تجليات الغريب في الفن والحياة.. الصادر عن دار ميريت.. اعتقد ان هذا الكتاب هو الوحيد في موضوعه في اللغة العربية.. قراءته تطلب وقتا وتركيزا شديدا. لذا لم اتمكن من الكتابة عنه الا اليوم رغم انه عندي منذ مارس الماضي هو يحتاج الي دراسة متأملة فيما انطوي عليه، وليس مقالة كالتي اكتبها الان.. فالمساحة هنا وطبيعة المقال لا تسمحان بمثل هذه الدراسة التي يجب ان تكون مفيدة لمؤلف الكتاب ومضيفة الي كتابه ومن ثم مثرية للقراء وللثقافة العربية في ان.. تفضل شاكر وفاجأني في مقدمة كتابه بشكري ضمن ثلة من المشكورين الذين شجعوه خلال مراحل مختلفة متتابعة من تأليف هذا الكتاب علي حد قوله.. كما اورد كتابي.. »راية الخيال« ضمن مراجعه.. الذي يجمع بيني وبين كتاب شاكر هو اهتمامي بالاتجاه السريالي في الفنون والاداب.. والذي نشرت فيه عدة دراسات وكتابين هما.. السريالية في مصر.. و»راية الخيال« وكلاهما نفدا بعد عدة طبعات.. فالاتجاه السريالي يجسد اقصي درجات الغرابة في الابداع الفني والادبي عبر التاريخ.. والغرابة هنا هي موضوع كتاب شاكر. تتبع شاكر معني كلمة »غريب« ومشتقاتها ودلالاتها في اللغات الانجليزية والفرنسية والعربية. وتطبيقاتها علي الابداع الفني والادبي... وهو موضوع شديد الاتساع من الصعب الاخذ بنواصيه واطرافه في كتاب واحد مهما بلغ من الضخامة ككتاب شاكر الذي تجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير.. وهذه هي مشكلة الكتاب الاول.. ان شاكر حاول فيما يبدو ان يكتب موسوعة في الغريب في الابداع الفني والادبي بمختلف اشكاله فتناول الغرابة في الفنون التشكيلية والمسرحية والسينما بل وفي العمارة وحتي الغرابة التكنولوجية.. ثم ضرب امثلة بفنانين غرباء.. اتصور انه اجهد نفسه كثيرا في هذا التتبع والتقصي الصعب.. ولم يكن ضروريا ان يفعل ذلك.. فلكل مجال من مجالات العلاقة مع الغريب دراسة وابحاث مستقلة... ومن المجهد كثيرا ان يقوم باحث بتتبع الغريب عبر مجالات متنوعة في دراسة واحدة... اذ ان بحث العلاقة بين الغريب وكل مجال ابداعي في فصل مستقل هو بمثابة كتاب مستقل.. فيبدو كتاب شاكر انه جامع بين دفتيه او غلافيه مجموعة مستقلة من الكتب. الصعب هو تتبع وبحث تداخل علاقة الغريب بين ثنايا الاشكال المختلفة من الابداع وحتي في مثل هذه الدراسة من الصعب تتبع العلاقة في زمن مفتوح كما فعل شاكر في كتابه.. اذ ان مثل هذه الدراسات المرجعية المهمة لها محددات اساسية تعينها مثل النوع الابداعي والاطار المكاني والفترة الزمنية.. لكني اري ان شاكر حمل نفسه بما لم يكن ضروريا ان يحملها به.. فضلا عن ذلك فتح شاكر الباب علي مصاريعه لتفسير مصطلح الغرابة أو الغريب بحيث اصبح عصيا علي التحديد.. . وأجهد نفسه في البحث عن الاصول اللغوية والاشتقاقات اللفظية عبر عدة لغات..وقد انعكس هذا علي تطبيقاته التي تناولها بأمثلة من الاعمال الابداعية ومن المبدعين فاختلط الغريب بالمخيف بالبشع بالمرعب بالشاذ.. واختلطت الغرابة بالغربة وهما مختلفتان، والغريب بالجليل أو السامي وهما مختلفان ايضا رغم ما وصل اليه المؤلف. لم يكتف المؤلف بذلك بل دخل في مقاربات بين المعني ونقيضه لكأن الكتاب كان في حاجة الي مزيد من الصفحات، وبالتالي اتسعت رقعة التطبيقات حتي خرجت عن حدود البحث الاصلي في الغرابة، امست بلا حدود. كان يمكن ان يسهل شاكر علي نفسه الامر بالاكتفاء بالتعريف الواضح المباشر البسيط لمصطلح الغريب، بما يعني غير المتوقع او غير المعتاد او غير المألوف وكلها معان متقاربة جدا.. واقرب مثال علي ذلك ما تعلمناه في الصحافة.. وهو ان الخبر ليس ان يعض كلب انسانا، وانما ان يعض انسان كلبا. ومن ثم كان شاكر سيسهل علي نفسه التطبيقات والامثلة فلا يدخل فيها العمارة أو افلام الرعب. ذلك لان العمارة. وانا اشيد بالفصل الخاص بها في الكتاب لجدته ورقيه.. هي بطبيعة الحال متغيرة ومرتبطة بالظروف المحيطة.. اي ان العمارة بنت زمانها ومكانها وظروف مجتمعها.. هكذا نشأت المدارس أو الاتجاهات المعمارية الكبري عبر التاريخ من العمارة الفرعونية الي العمارة المعاصرة مرورا بكل عصور البشرية اليونانية والرومانية والوسطي والحديثة. وحتي في هذه المعاصرة لم تعد فيها نماذج غريبة من كثرة ابداع هذه النماذج واختلافها الهائل فيما بينها.. هناك من النماذج التي يمكن ان توصف بالغريبة منها ما هو وثيق الصلة بأصول معمارية سابقة، واظهر مثال علي ذلك كاتدرائية العائلة المقدسة التي صممها المهندس الاسباني العبقري »جاودي« في مدينة برشلونة باسبانيا ولم يكتمل بناؤها حتي الان.. اما افلام الرعب فهي اساسا تقوم علي تخويف المشاهد.. وليس علي ادهاشه بالغريب من القصص أو المشاهد.. الغرابة فيها ان وجدت تأتي من توابل بث الخوف والرعب وليس هدفا في حد ذاته.. رغم ان شاكر رجع الي معاني الغرابة في اللغة العربية فيما يقرب من اربع صفحات.. الا انه لم يبحث في الغرابة في الفنون او الاداب العربية.. اقتصر بحثه في مئات الصفحات من كتابه علي الفنون والاداب الاوربية، لم يتجاوزها الي غيرها.. كنت اود لو افرد فصلا من فصول كتابه المهم لعرض وتحليل امثلة من الغرابة في الابداع العربي.. هذا ما حاولت القيام به في احد فصول كتابي الذي رجع اليه شاكر وهو »راية الخيال« عندما تحدثت عن السريالية عربيا. والمجال لا يزال في حاجة الي كثير من الدراسات غوصا في الابداع العربي عبر تاريخه.. يكفي مثلا كبيرا هو البحث في الغرابة في القرآن.. وفيه من القصص والتعبيرات الفنية ما تجب دراسته من هذه الزاوية وتستحق كتبا مستقلة هناك عمل ابداعي عربي اصبح علامة عالمية هو »الف ليلة وليلة« وما فيها من الغرائب المثيرة. الامر اقل بكثير علي مستوي الفنون البصرية والتعبيرية مثل المسرح والسينما والفنون التشكيلية فهي عند العرب مستحدثة وكثير منها تقليد اجهد شاكر نفسه في ترجمات طويلة من عشرات، وربما فوق ذلك، الكتب والدراسات باللغة الانجليزية. بحيث اصبحت قراءة هذه الترجمات العربية في حد ذاتها مجهدة مع المستوي الجديد للترجمة فما بالنا لو كان هذا المستوي دون ذلك؟.. وهذه إحدي مشاكل الترجمة في كل اللغات علي كل حال.. اري انه كان من الافضل للكتاب والارحم بمؤلفه لو قل عدد المراجع الانجليزية واختصرت الاستشهادات منها.. هذا الرأي يبدو علي العكس مما يشيدون به عادة في الدراسات والابحاث. ارجو ان يكون القاريء قد فهم مما كتبته في عجالة مدي اهمية وتفرد كتاب صديقي العزيز الاستاذ الدكتور شاكر عبدالحميد.. فهو كتاب مرجع نادر بذل فيه مجهودا غريبا مثل موضوعه.. اضافة لاجتهاداته الفكرية المبدعة والمتميزة السابقة.. ولا أعرف كيف سيضيف علي هذا الانجاز انجازا اخر.