أيتها المكتبات، أرجوك لا توصدي أبوابك أمام وجهي..! هناك كتب لا تبلي، ولا تفقد قيمتها بمرور الزمن، تزداد قيمة وأصالة مع الأيام، وكما يقول النقاد والأدباء، استطاعت بقوة مادتها أن تصارع »عنكبوت النسيان« وتظل في دائرة اهتمام الأجيال، جيلا بعد جيل، يقبل عليها الناس بشغف، يقرأونها دون سأم أو ملل. حقيقة الكتب كثيرة ومتنوعة، ولكن القيم منها لا يخطؤه العقل، ولا تنساه العين، وكلماتها ذات جرس ووقع جميل علي الأذن النقية التي تعشق كل جميل ومفيد. ولقد وجدتها فرصة سانحة لمقاومة البرد الشديد الذي أحاط بالناس من كل جانب، وجعلهم يبحثون عن الدفء الذي يضخ في أجسامهم الدماء، ويمنحهم الحيوية والنشاط، والقدرة علي التكيف مع ظواهر الطبيعة وتقلباتها، التي هي من صنع الله سبحانه وتعالي، ومن أحسن من الله صنعا. وإذا كنا اليوم نشكو من البرد والعواصف الثلجية، فقد كنا بالأمس القريب نشكو من الحر القائظ لشهور طويلة، الذي جعلنا نتصبب عرقا، وزادنا رهقا، وجعل صدورنا ضيقة، وانفاسنا متلاحقة، وكأنها تصعد إلي السماء.. ولكن الإنسان كثيرا ما ينسي، تلك نعمة اختص الله بها الإنسان، حتي لا يظل أسيرا لأمراض نفسية واجتماعية شتي، وتسير به الحياة إلي غاياتها التي أرادها الله عز وجل لعمارة الكون، ونشر الخير، إلي أن يرث الله الأرض ومن عليها.. وللخروج من دوائر البرد، والحر، اخترت لكم ثلاثة كتب، ونحن نعلم ان الكتاب خير جليس، تبثه ما يعتمل في نفسك، فلا يضجر، وتناجيه، فينصت لك في شغف، وتسعي إليه، فيهرول إليك، فيعطيك من نفائسه، فكرا، وعلما ومعرفة بلا حدود.. وتقرأ بين صفحاته، ما اختزنه، وحافظ عليه من قصص القرون الماضية.. اخترت لك ثلاثة كتب، يجمعها خيط واحد: الشوق إلي الحرية، والتطلع إلي العدالة، وإلي الحياة الإنسانية الكريمة، وكراهية الظلم والظالمين والتنديد بهم ومقتهم.. والدعوة لنشر الحب بين البشر أجمعين. ولضيق المساحة، اقتصرت علي كتاب واحد وأرجأت الكتابين الثاني والثالث، ليوميات قادمة ان شاء الله تعالي. الكتاب الأول: علامة بارزة في تاريخ الأدب المصري المعاصر، يصور فيه الكاتب الفقر في أبشع صوره، وأسبابه، وعلاجها، يصور فيه الفقر الذي يذل النفوس ويدمي القلوب، ويبكي العيون. بطبيعة الحال، لا نقصد أن نقدم تلخيصا وافيا لهذه الكتب المختارة، فالمساحة تقصر عن هذا، إنما القصد أن نقدم اطلالة سريعة وموجزة، ونترك للقارئ العزيز ان يعود إليها في مصادرها الأصلية، ليستمتع بما يقرأ أو ينحيها، جانبا إذا اراد ذلك، وقد عرضناها بأقلام كتابها، ولكن بتصرف غير ضار، والمقصد الثاني، الترغيب في القراءة، فالقراءة المتجددة والمتعددة في الأدب والعلوم والفنون تجعلنا كما يقول د. حامد عمار شيخ التربويين نزرع بذور مجتمع المعرفة وثقافته الخصبة الثرية الخلاقة، كما ان القراءة تجعلنا نعرف ما لم نكن نعرفه، كما يقول الكاتب الكبير ناصر الانصاري الذي رحل عن عالمنا منذ شهور، ويطالبنا بأن نستزيد مما نعرفه لتنوع المعارف والأفكار في عالم يتغير بسرعة هائلة، ويتسابق بخطي واسعة نحو كل جديد، وهو عالم تحكمه المعرفة، فمن يعرف اكثر، ويستفيد مما يعرف، يصبح مهاب الجانب، صوته مسموعا، وكلمته محل احترام وتقدير.. ويصبح قوة ردع تحد من اطماع الوحوش الإنسانية، الكاسرة... عالم فقد إنسانيته، وافتقد العدل والحق، لا مكان فيه لجاهل أو خامل أو مستكين، والمقصد الثالث ان ننقب عن المخزون الثقافي النفيس الذي ابدعه وصنعه الآباء والأجداد ليكون أمام الابناء والاحفاد، ليضيفوا إليه علما نافعا، وفكرا مستنيرا يكون سندا لهم في مقاومة الضحالة الثقافية وهشاشة المعرفة، بذلك نصل الماضي بالحاضر، استشرافا لمستقبل فكري وعلمي وتكنولوجي أفضل وأرقي.. والمقصد الرابع نريد التأكيد عليه ان الكتاب يبقي، أما ما يقال شفاهة فهو ثرثرة تذروها الرياح. ومن الطريف، أنه قد وجد بيننا نفر من الحكائين الذين يطوفون علي الناس لإضحاكهم في مجالسهم والتسرية عنهم، يطلقون علي أنفسهم: الظرفاء.. وهناك من سمي نفسه بأنه آخر ظرفاء العصر.. وبطبيعة الحال، هو عصر في معظمه أجوف.. وكنا نطلق عليهم تفكها: لقد أتي »....« المنتشر بلسانه أكثر من قلمه..! ولا اعتقد اننا بعدنا كثيرا عن أصل الموضوع وتعالوا نطل علي هذه الكتب المختارة: الكتاب الأول: »المعذبون في الأرض«... لعميد الأدب العربي د. طه حسين، ومقدمة الكتاب كاشفة دائما عما يريد ان يقوله المؤلف... يقول الأستاذ العميد: لا أجد لتصوير الحياة في مصر أثناء الأعوام الأخيرة من القرن الماضي أدق من هذين الاهداءين اللذين يقرؤهما كل من تناول هذا الكتاب: »إلي الذين يحرقهم الشوق إلي العدل، وإلي الذين يؤرقهم الخوف من العدل.. إلي أولئك وهؤلاء جميعا أسوق هذا الحديث«.. إلي الذين يجدون مالا ينفقون، وإلي الذين لا يجدون ما ينفقون، يساق هذا الحديث«.. لقد كان المصريون في تلك الأعوام القريبة والبعيدة فريقين، أحدهما يمثل الكثرة الكثيرة البائسة، التي تتحرق شوقا إلي العدل مصبحة وممسية، والآخر يصور القلة القليلة التي تشفق من العدل حين تستقبل ضوء النهار، وتفزع من العدل حين تجنها ظلمة الليل.. وكان فريق الكثرة ذاك لايجد ما ينفق في رزق نفسه، وفي رزق من يعول، فيشقي بما يجد من الحرمان، كانت عينه بصيرة إلي أبعد ما يبلغ البصر، وكانت يده قصيرة إلي أدني ما يكون القصر، كان يري الطيبات بين يديه فتتوق إليها نفسه، وتتوق إليها نفوس بنيه وبناته، فإذا أراد أن يمد يده أبت أن تمتد كأنما أصابها شلل، فكان يكظم غيظه ويصبر نفسه علي مكروهها، ويصبر أهله علي البأساء والضراء، وينتظر العدل الذي يبطئ عليه فيغلو في الابطاء.. ولقد وطن نفسه علي الجهل، لأن أباه لم يستطع تعليمه، وهم أن يخرج عياله من الجهل الذي اضطر هو إليه، فرضي الجهل لبنيه كمارضيه لنفسه، وانتظر العدل الذي يتيح لبنيه من المعرفة مالم يتح له في صباه، وكان يري البؤس له خليطا بغيضا يصحبه إذا سعي في الأرض، ويصحبه إذا راح إلي داره ويسكن معه، ومع أسرته في تلك الدار إن اتيحت له ولأسرته دار يأوون إليها، فيصبر أهله عليه، واثقا بأنه لن يستطيع منه فرارا، لأنه لا يستطيع ان يتخذ نفقا في الأرض أو سلما إلي السماء فينتظر العدل الذي سيخلصه ويخلص أهله من خليطة ذاك البغيض، ولم يكن البؤس يرضي أن يصحب هذا الفريق إلا إذا تبعه أصحابه من الجوع والعري والعلل، والذل والهوان والكد الذي يضني ولا يغني، وكان الناس من ذلك الفريق يبغضون أولئك الضيف أشد البغض ولكنهم لا يجدون إلي الخلاص من ضيفهم الثقلاء سبيلا إلا أن يأتي العدل.. ولكن العدل كان بطيئا مسرفا في البطء.. وما أكثر ما مضت الأجيال وليس لها من العدل حظ إلا انتظارها له. أما الفريق الثاني، فريق تلك القلة القليلة، فقد كان يري بؤس الفريق الأول وشقاءه فلا يحفل بما يري، ولعله لم يكن يري شيئا ولا يحس شيئا، كان مشغولا بيسره عن عسر الناس من حوله، وكان مثقلا بالغني، فلا يعنيه أن يثقل الناس بالفقر، كان نظره قصيرا كأدني ما يكون القصر، وكانت يده طويلة، كأبعد ما يكون الطول، كان يشتهي فيبلغ ما يشتهي حتي سئم شهواته، وكان يريد فيبلغ ما يريد حتي مل إرادته، وكأن قلبه قد قسا فهو كالحجارة أو أشد قسوة. وإن من الحجارة لما تتفجر منه الأنهار، وأن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.. وان منها لما يهبط من خشية الله، وكأن عقله قد حُجب عما حوله أو حجب عنه ما حوله، فهو لا يري ما كان يملأ البيئة التي يعيش فيها من النذر، فإن رأي منها شيئا أعرض ونأي بجانبه، وأمعن في الحمق والغرور، ولم يفكر فيما كان، ولا يفكر فيما يمكن ان يكون، إنما عاش للساعة التي هو فيها، كأن كل يوم من أيامه قد اقتطع من الزمان اقتطاعا، فليس له أمس وليس له غد، والبعد يشتد بينه وبين ذلك الفريق من البائسين والمعذبين، فهو لا يحسهم إلا أن يحتاج إليهم، وهو إذا احتاج إليهم لم يرفق بهم ولم يعطف عليهم، وانما ينزل إليهم الأمر تنزيلا.. إن ما نسوقه من حديث، عظة للمسرف، وللحكومات الغافلة، وعزاء للمحروم والتذكرة بأن للصبر حدودا، وبعدها يأتي الطوفان... والحديث موصول. نبض ابن البلد يسعدني دائما أن أتلقي رسائل من القراء.. فأجد فيها نبض ابن البلد.. يتكلم بدون تكلف، يعرض ما يعني له من آراء وافكار، تفيد، في حل كثير من المشكلات.. ومن هذه الرسائل: رسالة من علي محمد علي، صاحب ورشة تصليح أحذية بالدقي، يناشد فيها شركات المياه الغازية ان تستخدم البلاستيك في تعبئة انتاجها، فقد لاحظ ميل هذه الشركات إلي العبوات الزجاجية، وكثير من تلاميذ المدارس المجاورة له يقومون بكسرها، فتتطاير شظاياها علي الأرصفة وفي عرض الشارع، مما يصيب المارة باصابات بالغة ان استخدام الزجاجات البلاستيك أخف ضررا، وبه نسبة من الأمان للتلاميذ والمارة علي حد سواء ويناشد المدارس والسكان الاهتمام بنظافة أحيائهم، ويناشد مديري المدارس ونظارها والمدرسين وأولياء الأمور توعية طلابهم بعدم القاء الزبالة في الشوارع، حتي تبدو الأحياء في صورة نظيفة بذلك نمنع انتشار الأوبئة، والقضاء علي جيوش الذباب ناقل الأمراض، والعدوي.. انها دعوة من مواطن نرجو ان يستجيب لها اولي الامر ونحن علي بعد ساعات من استقبال عام جديد وندعو الله ان يكون عام رخاء وسلام علي مصر وأهلها والناس أجمعين. الرسالة الثانية من نور أبوزيد أحمد، صاحب فترينة خردوات وحلويات بالدقي، يتساءل فيها ماذا جري للإنسان المصري لقد تحولت الشوارع إلي بيئة غير نظيفة، وأصبحت الزبالة تحيط بالمدارس والمستشفيات.. وأصبحت الألفاظ الهابطة، هي اللغة الدارجة، في التعامل، في الشارع، في العمل، وفي جميع المعاملات التجارية.. إلخ، كما انتزعت الرحمة من القلوب، فلم يعد الصغير يحترم الكبير ولم يعد الكبير يعطف علي الصغير، كأننا وحوش في غابة، واصبحنا كالسمك الكبير يأكل الصغير، ويتساءل: من الذي اوصلنا إلي هذه الحالة البائسة، هل نتيجة غياب التربية في المدارس أم نتيجة تفكك الأسر، أم لغياب القدوة الطيبة.. ودعاؤنا إلي الله، أن يستر علي البلد، وأن يأخذ بيد الأجيال الجديدة.. ويبعد عنا شر المنافقين وان يكون عملنا خالصا لمصر وأهلها. أعظم الطيبات قال الامام علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: إني ذقت الطيبات كلها، فلم أجد أطيب من العافية. وذقت المرارات كلها فلم أجد أمر من الحاجة، إلي الناس. وقد حملت الصخر والحديد، فلم أجد أثقل من الدين. ألا فاعلم أن الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، فإن كان لك فلا تبطر، وإن كان عليك، فأصبر، فكلاهما ينحسر.