في عمر زهرة قابلتني بوجه شاحب ونظرة زائغة وابتسامة خجول لا تبرح وجنتيها المشبعتين بحمرة الأمل الموءود أو تورد الألم المولود! قالت: تقدم لي راكبا سيارة فارهة واقفاً علي رصيد من ميراث الأب متسلحاً بوشائج القربي والجذور العائلية متباهياً بوظيفة مرموقة، ومطلقاً سيل الأمنيات بحياة زوجية مستقرة وعيشة رغدة مزدهرة، مشترطاً فقط ان انتقل للعيش معه بالريف بمنزل العائلة وأترك العاصمة، ووافق أهلي واستمددت من موافقتهم زاداً ومن قرابته لأبي اطمئناناً ووافقت وقدم لي شبكة ثمينة. ولم تمر سوي شهور قليلة حتي تبينت أنني ارتبطت بشاب مغرور ليس له كبير سوي نفسه يستغل تدليل أمه له وعاش دون رقابة خلال دراسته وسافر الي هناك وهناك داخل مصر ولا هم له سوي اشباع نفسه وارضاء غروره وإحساسه بأنه عريس لقطة ستمسك فيه اي عروس بيديها وأسنانها كما يقولون مهما كانت أو كان أهلها، ووجدت أمامي شخصاً يحاول وضعي في شرنقة تحيط بي وتعزلني عن الآخرين حتي عن أهلي، وفي ذهنه من ميراث نزواته وشطحاته ان كل البنات علي نفس شاكلة من قابلهن والتقط معهن صوراً يحتفظ بها ويضعها فوق صفحته بالفيس بوك، ويغضب لأتفه الأسباب وينطوي في غضبه علي نفسه لا يهاتفني ولا يرد علي اتصالاتي به ولا يعمل حساباً لقرابة أو للكبار حوله ويظهر للآخرين بمظهر المظلوم المصدوم نفسياً، ولم يكن لذلك من نتيجة سوي فسخ الخطبة بطبيعة الحال، وذهب في خداع الآخرين الي الايحاء لهم بأنه «معمول له عمل» ليهييء لهم انه مجبر علي ما يفعل، وليس له من هدف سوي استرداد شبكته بطريقة لئيمة، ولكنني أرفض رد شبكته اليه تأديباً. قلت لها يا ابنتي لا تحزني ودعي عنك كل ظواهر الحزن علي مثل هذا الخطيب الذي أتخيله يحمل مرآة ينظر فيها دائماً الي نفسه ويتخيل وجوه وعيون الآخرين مرايا ينظر فيها ليشبع داء الغرور وآفة الكبر وانعدام الرؤية إلا لنفسه، انك الرابحة بكل تأكيد من وراء خلاصك المبكر منه وتعديل مسارك الذي كان يمضي بك الي سجن انفرادي لمن لا يري ولا يسمع ولا يفهم الا ما يراه ويقوله ويفعله، ولتتركيه سجين مرضه وسوء فهمه ونظرته إلي الآخرين نظرة واحدة وظنه أن الدنيا كلها «بزرميط» أما الشبكة فرغم انها هدية لا تمثل حقاً شرعياً لك فأنا معك في تلقينه درساً بثمنها وعدم اعادتها له ولو قمت ببيعها والتبرع بثمنها لأصحاب الحاجات والفقراء والمرضي. القلب يعشق كلمة عتاب اسعدتني من أحد قراء المقال وهو يقول لي: أم كلثوم ليست فقط مطربة القلب والعواطف والحب، لقد ظلمتها بتحجيم عطائها فيما ذكرت. قلت له بل ظلمني وظلمتها المساحة المتاحة، فلا يمكن تناول جمال ما قدمت وبقاءه وقيمته في سطور قليلة، بل هناك ما هو أعمق وأخلد مما كتبت فيما قدمت هي، فأم كلثوم حافظة القرآن طفلة ومنشدة المدائح النبوية صبية، لم تبرح خيالها ووجدانها أساسيات البداية فأبدعت كما لم يبدع أحد في مدائح نبوية تعددت آياتها ما بين «ولد الهدي» و«سلوا قلبي» و«نهج البردة». وأم كلثوم التي غنت «هل رأي الحب سكاري مثلنا» في «الأطلال» هي التي غنت «وانما يشفع لي أني عشت لا أشرك في وحدتك» ضمن «رباعيات الخيام» وهي ايضاً التي غنت «إذا الايمان ضاع فلا أمانا ولا دنيا لمن لم يحيي دينا» في «حديث الروح» وهي التي حملت أشواق المشتاقين لبلد الحبيب صلي الله عليه وسلم منشدة «طلع البدر علينا من ثنيات الوداع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع» في «الثلاثية المقدسة»، وهي التي انتقلت بمشاعر سامعيها من هوي الدنيا الي حب الله بتجرده وخضوعه وديمومته و»اللي هويته اليوم دايم وصاله دوم.. لا يعاتب اللي يلوم.. ولا في طبعه اللوم واحد مافيش غيره.. ملا الوجود نوره.. دعاني لبيته.. لحد باب بيته.. واما تجلي لي بالدمع ناجيته» في رائعتها «القلب يعشق كل جميل» وهي أغنية من أجمل بل أجمل أغنية جسدت رحلة الحج بأشواقها وذوبانها وفرحتها بالقرب من الله والاحساس بغفران الذنوب. أما عيون الوطنيات والمصريات في ديوان الغناء العربي فالمقدمة فيها لأم كلثوم صاحبة «طوف وشوف» و«مصر التي في خاطري» و«مصر تتحدث عن نفسها» و«علي باب مصر» و«شباب النيل» و«بالسلام احنا بدينا» و«صوت الشعب» وعشرات من القصائد والأغنيات الوطنية التي قدمتها عبر أكثر من نصف قرن.