أحمد عباس هنا باريس.. الأنيس والونيس، هنا باريس الطليق الحبيس.. هنا كعوب النساء الحياري، هنا حنين الرجال السكاري.. هنا باريس، هنا باريس البياض الرخامي حتي سوادها أسود غطيس.. هنا باريس لما تنوي الكتابة، هنا باريس لما تمحي الكآبة.. هنا باريس، هنا باريس الخبيث والحريص، هنا باريس الرخيص والنفيس، هنا باريس.. الثلاثاء ظهرا: هبوط هادئ لطيار إسباني حصيف بعد معاناة تلوت خلالها الشهادة مرات ومرات، لعله إيذان بالنهاية، لكن يبدو ان للعمر بقية، مطار شارل ديجول في العاصمة الفرنسية هو نقطة الوصول، المرة الاولي التي أصل فيها مطارا طوابقه متراصة رأسيا تباعا تربطه سيور كهربائية للمشاة وسلالم كهربية عالية للصعود والهبوط، المطار شاسع ، قديم، غرف التدخين في الأرجاء، رائحة الدخان تتسلل للأنف مدخن قديم هو الآخر، أميزها جيدا خاصة بعد رحلة استمرت علي مدي ساعتين أو أكثر بدون سيجارة، الفرنسيون مدخنون شرهون، عرفت من سائقي التونسي الشاب كريم العيوني بعدها أن تلك الغرف خصصت بعد ضغط من الفرنسيين أنفسهم. الطريق من شارل ديجول إلي ضاحية مونبارناس البعيدة عنه والقريبة من قلب باريس لا يختلف كثيرا عن محور العروبة وصلاح سالم بقلب مصر الجديدة، كلاهما اتفق في النظافة والاتساع وتعدد الكباري، الأسوار العالية تحيط الطريق، كريم يؤكد أن هذه البنايات القصيرة المختبئة خلف الاسوار كانت مساكن شعبية لغير القادرين، لكن الحكومة بدأت في إجلائهم منها رغم النظافة إلي مساكن أكثر رقيا. رحلة الوصول إلي الفندق تستغرق 43 دقيقة علي حد قول كريم، خريطة ال SPG تؤكد اننا سنمر من الشانزيليزيه وهزات السيارة المتتالية تؤكد اختراقنا له، الشارع الواسع مفروش بالحجر القديم، المشاة هم السادة هنا رغم رائحة العوادم، وساقية ملاهيه العملاقة تبدو في آخره. الثلاثاء عصرا: أخيرا باريس.. باريس الحكايات والاساطير، باريس الأحلام والأوهام، باريس الحب والفن والعشق، فندق بولمان مونبارناس هو المستقر الآن، الطابق الخامس عشر في الغرفة 1508 المطلة علي زاويته اليمني، الصورة من أعلي تكشف دائما أشياء أخري، عشوائيات باريس، هكذا يسمونها، أي معيار إتخذته الحكومة هنا لوصمها بالعشوائية.. لا أعرف، أقسم أنه ظلم!!، درجة حرارة الجو اخذة في الانخفاض رغم ضوء الشمس، تعلنها 8 درجات مئوية، ساعات النهار هنا أطول من الليل، وساعتك البيولوجية فقط هي المسئولة عن تحديد فروق التوقيت، هي الاخري نجت من عمليات التفتيش الدقيق التي تجري بالمطارات اهتمامك بالوقت ايضا لن يقدم أو يؤخر، أنت الآن في باريس، ولم تعجل المغادرة؟! الثلاثاء مساء: دقات كعوب الباريسيات هنا تعلنها حربا علي جنس الرجال تتحدي بثبات كل مذكر أيا ما كان نوعه أو جنسه أو لونه، ولم لا فباريس أنثي في أوج نشوتها، إغرائها، جنونها، شبقها، تذكرت هنا فصولا من رواية الكاتب الامريكي «فرنسيس سكات» التي كتبها مع بداية بزوغ نتائج التكنولوجيا الأمريكية وطرحت مطلع العام 1925 «جاتسبي العظيم»، أتذكر هنا وأنا أطوف سائحا وسابحا في هذا الملكوت الباريسي الخاص كلمات قصيدة الراحل الكبير أحمد فؤاد نجم «فاليري جيسكار ديستان» في بيتها الذي لم أعد أتذكر ترتيبه وسط هذا السحر «والعربيات هاتمون بدل البنزين بارفان»، التهكم دائما مشتق من الحقيقة، الشوارع هنا ولا أخص الشانزيليزيه تفوح بعطر الأنوثة، تلعن العوادم، تفرض نفسها، تخدر حاسة السمع، تقصيها عن أي نفير يصدر من سائق أهوج. هنا تأكدت أنني لازلت رغم الشراهة مدخنا مبتدئا، مراهقا، حديث العهد، فلا تكاد تخلو أصابع الباريسيات من سيجارة فرنسية محظوظة ماركة «دافي دوف» ، تفور أعمدة الدخان من شفاة الباريسيات بعد زفرة دافئة في عز البرودة، تفرض بحثا عن علبة دخانك لإشعال سيجارة، نعم هي الغواية، فباريس تحترف الغواية، حتي أسفل برجها الحديدي «ايفل» وكأنها تستنفر رجولة ما بداخلك، ومن لا يلبي نداء باريس ليشاهدها من أعلي!! والباريسيات يعشقن الجوارب السوداء الشفافة الطويلة عشقهن للسيجارة، يتقنونها، يتفننون في تصاميمها ونقوشها، كان لابد أن يخرج من هنا »ايف سان لوران« »شانيل« تبدو الباريسية متخلصة من عنصريتها نهائيا ولم لا ! فهن من يضعن القواعد، يرسين الشروط، أما الرجل الفرنسي فلايزال أسيرا لبعض من العنصرية الدميمة، فربما تسأله عنوانا ما، فيرفض الاجابة بسبب انجليزيتك!!، أما الفرنسية فلا تعبأ كثيرا بلغتك أو جنسك أو لونك، غايتك فقط هي المقصد. المدينة الصاخبة ليلا، تعلن انقلابا متجددا مع بداية أول خيوط نهارها المتأخر علي كل معان التخلف والقهر والتردي والاكتئاب، إلا من عنصرية قليلة لم ترتق بعد ولا تؤثر علي سير الدولة، أترحم أثناء سيري علي الخديو إسماعيل الذي بني قاهرتي، أتساءل أي إهمال طال مبانيكي التي راحت في وقت ما تستفز عمارة باريس، نفس عمارة منطقة وسط البلد في المساكن، حتي مبني وزارة السياحة الفرنسية نسخة من مقر البنك المركزي المصري بتقاطع شارع محمد فريد. الحياة الخلفية في زاوية أخري لا تبدو معالمها إلا ليلا، علي ضفاف الشانزيليزيه تستقبلك المقاهي العربية والايرانية، القائمون عليها غالبا مغاربة، أو من أرمن لبنان، يبالغون في الحفاوة، احتفاء بغيض من شاب غادر بلده بحثا عن لقمة العيش، هم فقط من يقدمون الشيشة أو النارجيلة، معسل شيخ البلد أو السلوم المصري هما كلمة السر هنا. أما الأنيسات فلا تشغل لنفسك بهن بالا، هن الأخريات يحللن ضيفات علي طاولتك مع المشاريب، صاحبات جنسية عربية محددة، هن المسيطرات علي تلك الامكنة، لعن الله أكل العيش اذا كان ذلك هو السبيل لأكله. باريس تغتسل الأربعاء نهارا: قررت باريس اليوم الاغتسال، ربما لتتطهر من خطايا ليال فائتة احترفت فيها الغواية والإثارة، طاف فيها هرمونها النفاذ أرجاءها طولا وعرضا، قطرات المطر هي الاخري أنثي، فلا تكاد تشعر بقوتها رغم الغزارة، تذوب علي وجهك الوحيد العاري برقة أقرب إلي التمسح، حتي اذا جرأت علي تجفيفها، أبت أن يزيلها رجل، فاختارت لنفسها الانسياب، ملتاعة بإرادتها، تحفر لنفسها أدق مجري عرفه القوم. التجول نهارا في باريس ليس أقل إغراء عنه في الليل، فكلاهما يستثير غرائز الاخري، النهار هنا يفرض مظاهر مغايرة وكأنه ينتقي زواره، فلا وجود لشحاذي المساء العرب في الشوارع أو محترفات الليل من الرخيصات، القيمة فقط للعمل رغم الدلال الباريسي المستمر، القيمة للآدمية، الاولوية للمارة حتي وإن فتحت الاشارة وأعلنت الاخضر ضوء لها، أما البارفانات الباريسية هي الاخري فلا ترحم لا تميز بين ليل أو نهار، تدفعك يمينا ويسارا، تلفك، تلفحك، تطيح بعبقها، تضرب بالتوقيت عرض الحائط، تشيح بوجهها عن المغترب فيزداد تيها. الزائر هنا مغلوب علي أمره، اذا كانت زيارته قصيرة لا تتجاوز الليلة الواحدة بيومين، فلا استطاع مقاومة باريس وملكوتها ولا أمكنة التسوق في افخر متاجر العالم علي الاطلاق، لكن الفرصة لا تزال سانحة في ساعات النهار الاولي. في متجر فخم ضم علامات تجارية شهيرة، كان اختراق طوابير المدخنين أمام أبوابه في التاسعة والنصف صباحا، التدخين رغم أهميته للفرنسيين ممنوع بتاتا في جميع الاماكن المغلقة، المحلات راقدة في سبات نومها، الأنوار مطفأة، لا وجود إلا للعاملين ينهون استعدادهم ليفتحوا أبواب محلاتهم. موظفا الأمن بالمتجر الكبير بمونبارناس هما الملجأ، أحدهما بدا فرنسيا من المواطنين الأصليين، والآخر تشي هيئته بأنه فرانكوفوني - ربما هاجر والداه - من الآفارقة المهاجرين وقت الاستعمار الفرنسي لبلادهم ، يرمقاني بعناية، تتواتر الاسئلة لديهما، يدركان حاجتي والمبادرة غائبة، العقارب تمضي في رحلتها تتعجل موعد طائرتي للمغادرة، ولم يعد مفرا من تجرع بعض القوة والاستعانة بأحدهما: سيدي: في أي ساعة تفتح المحال أبوابها؟ - بعد منتصف الساعة، في تمام العاشرة.. يرد الأفريقي بإنجليزية ركيكة. يرشقني خلالها الفرنسي بنظرة حانقة تتحدي وجودي علي أرضه!! ملعونة هذه العنصرية التي لم تمح إلا بإعلان القيامة. في غرفة التدخين في نفس الغرفة السالفة الملحقة بالممر الوحيد للبوابة 53 بمطار شارل ديجول كان اللقاء الأول وربما الاخير، أقسم أن المصريين جميعا ربطتهم أنساب ما، فلا حاجة للسؤال يعرفون بعضهم بالدم دون كلام: رايح فين؟.. أسأله بيقين أولاد البلد. - رايح بلدنا.. بعامية مصرية يجيب. بقالك كتير هنا؟ - 16 سنة. مبسوط؟ - أكل العيش !! منين من مصر؟ - المحلة الكبري!! يموت الكلام هنا وأغادر حزينا علي أبناء المحلة الكبري الصناع المهرة، أي لحظة قسوة تلك التي استغنت فيها الأم عن أمهر أبنائها.