أحيانا تقودنا الصدفة إلي اكتشاف مهم، يستحق أن نتوقف عنده بكثير من التفكير والتأمل. وهذا ما حدث لي قبل عدة أيام عندما التقيت صدفة بمدير وحدة إعادة التأهيل والمنسق الداخلي لوحدة علاج الإدمان بمستشفي الطب النفسي. عرفني بنفسه، ثم أهداني كتابا وقال لي: أرجو أن تقرئيه. لم يزد عن هذه الجملة. جذبني العنوان الغريب، فبدأت تصفح الكتاب. لم أكن أنوي قراءته في الحال، أردت فقط أن ألتقط الفكرة أو المحور الرئيسي الذي يدور حوله، علي أن أعود لقراءته في وقت لاحق.. وجدت نفسي أقرأ وأقرأ دون توقف، وألهث وراء فصول الكتاب بحثا عن نهاية القصة المثيرة. لم أتوقف إلا عند الصفحة الأخيرة، وكان ذلك في اليوم نفسه الذي تسلمت فيه الكتاب! تجربة شخصية، إنسانية فريدة. غنية وملهمة كتبها صاحبها بشجاعة تفوق الوصف، وتعرية مذهلة لذاته ونقاط ضعفه التي ستتحول بقدرة قادر إلي نقاط قوته وسبب خلاصه، سانده فيها دكتور عادل صادق وابنه الدكتور هشام صادق وقدما له دعماً نفسياً وإنسانياً لا ينساه. تجربة إنسان انحدر إلي هاوية الضياع وكاد أن يصل إلي النهاية المأساوية المتوقعة في مثل تلك الحالات، لكنه اجتاز الرحلة الصعبة وتحمل الطريق الوعر، عبر عذابات ودموع. يأس وفشل ليصل في النهاية إلي الخلاص الكامل. التطهر من كل آثامه وخطاياه، وكأنه ولد من جديد مغسولا من كل البقع السوداء التي صبغت حياته السابقة بلون الجحيم. كيف عرف التمرد علي والده وهو طفل في الثانية عشرة من عمره؟ وسافر مع أصدقائه إلي الأسكندرية لمدة خمسة عشر يوما دون أن تعرف أسرته أين ذهب؟، ورغم اعتراض والده علي سفره. وكيف كانت هذه الخطوة هي طريق الإدمان، والإرتباط بأصدقاء السوء، وتعلم كل أنواع المفاسد. تدخين السجائر ثم الحشيش، فالهيروين. وكل ما استجد في عالم المخدرات. شرب الكحوليات، إقامة علاقات مع نساء، ورسوب في الثانوية لعامين متتاليين. تبع ذلك سرقة أموال ومجوهرات والدته، وبيته وأخواته. القبض عليه في بيت فتاة أمريكية من أصل عراقي بتهمة الإتجار في المخدرات. لم يكن هو بل هي التاجرة، لكنه لم يعرف. وعندما ذهب والده ليتسلمه من القسم بعدما أكدت التحريات أنه كان يتعاطي فقط، وأن صديقته هي التاجرة، لم يحتمل الوالد الصدمة، أصيب بذبحة صدرية دخل علي أثرها العناية المركزة، ولم يمض عاماً واحدًا علي تلك الواقعة حتي مات الأب حسرة علي ابنه الوحيد الذي كسر قلبه، وحطم حلمه. حكايات ومواقف يحكيها المؤلف، صاحب التجربة الفريدة عن 18 مرة دخل فيها مصحات دون جدوي. كان يخرج من باب المستشفي ليتجه مباشرة إلي تاجر الهيروين ليشتري الجرعة بلهفة واشتياق، وكأنه يريد أن يعوض الأيام التي امتنع فيها إجباريا عن التعاطي في أثناء علاجه بالمستشفي. و يصف علاقته بأمه وأخواته البنات وكيف ساءت وتدهورت. لكن أمه العظيمة لم تيأس أبدا من رحمة الله. أنفقت كل ما لديها علي علاجه مراراً وتكراراً، رغم العذاب الذي عاشته بسببه.. ويأخذنا أخيراً إلي المحطة النهائية محطة الخلاص والتعافي من أخطر أمراض العصر «الإدمان»، المرة 19 التي كتب الله له فيها ميلادا آخر، وبداية مضيئة بالأمل. كيف شفي تماماً من الإدمان؟، كيف تحول من مدمن إلي متعاف إلي معالج؟ ، إنها معجزة بكل ما تحمله الكلمة من معني. «المرة 19» كتاب لابد أن يقرأه الجميع، ليس فقط الذين يعانون جحيم الإدمان، إنه روشتة من مجرب تفوق روشتة الطبيب في كيفية التغلب علي نقاط ضعفنا، ونكسر صخورا تقف بيننا وبين أنفسنا أولها الخوف من الفشل والاستسلام لرغباتنا المدمرة أحياناً، وقلة ثقتنا في أنفسنا. لقد حقق إيهاب صلاح معجزة إنسانية وأصبح الآن بعد 13 عاماً من الإلتزام المستشار والمنسق الداخلي لوحدة الإدمان، ويشرف علي العديد من البرامج المحلية والدولية في هذا المجال.