كلما أغلقت ملامح المستقبل أبوابها عن حاضر غير واضح المعالم تلمسنا أياما من الماضي لعلنا نهتدي بها للخروج من أزماتنا أو نسكن إليها لتهدأ نفوسنا. هل صدق هيجل في فلسفته التي تنبئ بأن الشعوب يأتي عليها زمان تعود فيه إلي النظام الحاكم الأول مع الأخذ في الاعتبار انها قد تميل إلي تطبيقه بدرجة أشد أو أقل حسب ظروف المجتمع. 34 سنة مرت علي رحيل جمال عبدالناصر ومازالت صوره تملأ المكان والزمان رغم انه جاء من بعده 4 رؤساء ما بين راحل ومخلوع ومعزول ومؤقت.. هل توقف الزمان؟ هل ما حدث في مصر من تطورات وأحداث لم يترك متنفسا للحاضر أن يبني المستقبل فعدنا إلي الماضي نتشبث به؟ انها معضلة نفسية ان يتوقف الزمان في حياة الشعوب وكأن ما مر بها من سنين رسم خطوطا تعود به إلي الوراء. حقا كلنا نتفهم لماذا عاد عبدالناصر الآن لأننا لم نستطع ان نكمل المسيرة الوطنية التي تحقق للشعوب أمالها في حياة كريمة بل وسلمنا أنفسنا للعالم أيا كان تصنيفه شرقا أو غربا فأصبح قرارنا بيد الغير علي المستوي السياسي وأهملنا في تحقيق الاكتفاء الذاتي فاستسلمنا للاستيراد من الإبرة إلي الصاروخ وغزت السلع الغالية والرخيصة أسواقنا فأصبح لدينا ملايين من الباعة الجائلين وليس المنتجين فصرنا سوقا للعالم ينهل منا مواردنا ويبدد طاقة أولادنا. عبدالناصر له أخطاؤه وله أعماله الوطنية التي استدعت ذكراه إلي أفئدة الناس في هذه الأيام فالثورة في يناير ويونيو استدعت الأفكار والمباديء الحرة والجرأة في الحق التي كانت عليها مصر من رفض للهيمنة الاستعمارية علي مقدرات الشعوب. وهو ما تمارسه الآن أمريكا وحلفاؤها في أوربا من تهديد ووعيد سواء بالإشارة بالتدخل العسكري أو الحرمان من القروض والمساعدات الاقتصادية. لقد كان عبدالناصر ندا لهذه القوي المعتدية حتي مع هزيمة 76 لم تنكسر إرادة الشعب المصري ولم يستسلم بل قاوم وأثبت للعالم انه حي من خلال حرب الاستنزاف كتجربة لحرب أكتوبر التي تمر الذكري الأربعين لها وستظل علامة بارزة في تاريخ الحروب العسكرية علي مستوي العالم والتي أكد فيها الجندي والقيادة العسكرية والشعب انهم علي قلب رجل واحد. الشعب يتذكر عبدالناصر الذي تحدي الهيمنة عند تأميم قناة السويس وشرع في تنفيذ المشروعات الوطنية التي تخرج البلاد من الحالة الراكدة إلي النماء فكان بناء السد العالي بما يوفره من طاقة لتشغيل المصانع وإنارة القري وزيادة المساحة المزروعة من الأراضي صاعا آخر ضد الهيمنة. يتذكر الناس معه مجانية التعليم وضآلة الدروس الخصوصية وأن مرتب الموظف كان يكفيه أن يعيش حياة كريمة لأن الجنيه المصري كان واقفا علي قدميه أمام الدولار وليس كما يحدث الآن ينكسر ونحمد ربنا أنه مصاب ولم يصل بعد لمرحلة الغيبوبة. حالة الارتباك السياسي بعد خلع مبارك وظهور شخصيات كانت مرشحة لرئاسة الدولة لا تلقي قبولا مناسبا لحكم مصر والنهوض بها وفشل تجربة المعزول كانت السبب المباشر في العودة إلي الماضي خاصة مع ظهور شخصية السيسي التي وجد الناس فيها ضالتهم باعتباره القائد الذي يمكن ان يخرج بهم من دائرة الضعف والفقر وهما آفتان تفتكا بأي شعب علي وجه الأرض. ولكن الأمر ليس بالسهولة التي يظنها الناس.. فعندما جاء عبدالناصر وما قام به من إصلاحات للنهوض بالبلاد وتحقيق العدالة للفقراء وإنصاف الفلاحين والعمال وغيرها من أعمال تساعد المجتمع علي الوقوف علي قدميه كانت الجماهير سندا له تدفع بكل ما تملك من جهد لتحقيق التنمية. أما الآن فالناس في حالة فوضي اجتماعية وقيم منهارة واستغلال لكل ما هو متاح ان تمتد إليه أيديهم فالوطنية غائبة وبالتالي ستظل صورة الماضي عنوانا غير مجسد للحاضر نستلهم منه الدوافع الذاتية للمرور قدما إلي الأمام. لم نعد يداً واحدة وراء زعيم نؤمن به ونحترمه ونقدره لأنه يؤمن بقيمة هذا الوطن وأبنائه وأنهم قادرون علي صنع المستقبل. ستظل الكلمات المؤثرة والأغاني الوطنية هي عنوان المرحلة الحالية لا تخرج عن كونها كلمات بلا فاعلية.. لهذا أجد انه من الضروري ان نرمم جدران الوطن التي تحطمت علي أيدي أبنائه وأن ننبذ الكراهية فيما بيننا ونفتح صفحة الصفاء والبناء بكل قوة حتي نعود أعظم الأمم، فالتاريخ عبرة لمن يتعظ وليس شعارات نرددها وكأننا خرجنا من عنق الزجاجة بترديدها. استلهام أعمال عبدالناصر الوطنية لا يكون برفع صوره فقط وإنما باستكمال المسيرة الوطنية إلي الأمام وإلا سيعود بنا الزمان إلي سنوات الانحطاط !