محمد فهمى لن تتحقق الديمقراطية في بلدنا.. إلا عندما يطمئن كل مواطن.. ان أحدا لن يسرق غسيله من فوق الحبل! سرقة الغسيل الذي ينشره ملايين الفقراء.. فوق جدران عششهم ومنازلهم الآيلة للسقوط.. أو علي الحبال فوق الأسطح التي تستطيع أصابع اللصوص الوصول إليها.. وهم علي الأرض.. قضية تشغلني.. منذ سنوات طويلة.. وتؤلمني! تؤلمني.. لأن سرقة الغسيل هي انتهاك صارخ لأبسط حقوق الإنسان.. وهو حقه في أن يغسل ثيابه.. وأن يستعيدها بعد النشر ليرتديها عند الخروج.. وهي جريمة لم نسمع أن جمعيات حقوق الإنسان في بلدنا قد بحثتها أو درستها أو أشارت إليها.. علما بأن سرقة الغسيل تفوق في خطورتها.. انتهاك حقوق الإرهابيين عندما تنشر الصحف وأجهزة الإعلام صورهم بعد إلقاء القبض عليهم.. وهم يرتعدون من هول القصاص! نشر صور الإرهابيين بعد القبض عليهم.. وسقوطهم بين أيدي الدولة.. قضية بالغة الأهمية.. لأنها تنطوي علي رسالة لعامة الشعب.. بأن الدولة موجودة.. وهي ليست غائبة عن الوجدان.. وانها استعادت هيبتها التي فقدتها طوال مطاردتها للإرهابيين الذين يتفننون في اثارة شكوك المواطنين حول قدرة الدولة علي مكافحة الإرهاب.. ويرتكبون من الأعمال ما يؤكد لعامة الشعب إن الارهاب أقوي من الدولة.. ولذلك حرص الألمان.. عند مواجهتهم لعصابة أندرياسي بادر الإرهابية علي نشر صورته بعد القبض عليه.. في سبعينيات القرن الماضي.. قبل ان تقوم قوات السجن بدس السم له في طعامه.. وقيل انه انتحر!
كان المنطق السائد في تلك الأيام يتلخص في ان الإرهابيين خرقوا القوانين.. وبالتالي فإنه من الخطأ معاملتهم بالقوانين.. وسمعنا أيامها جملة تتردد علي كل لسان هي: - الذين يهددون الأمن الاجتماعي.. وينشرون الفوضي.. لا يتم التعامل معهم بالقوانين! هكذا كانت النغمة السائدة في ألمانيا في عقب السبعينيات من القرن الماضي.. وأدت لاقتلاع الإرهاب من جذوره وشملت آباء وأمهات الإرهابيين.. وعائلاتهم.. وقضت علي الجينات الوراثية التي يمكن أن تسفر عن ظهور الإرهاب مرة أخري. ولذلك فعندما يعلن البعض أن نشر صور الجماعة الإرهابية التي دأبت علي اختراق القوانين.. هو خرق لحقوق الإنسان فعلينا أن نتساءل عن علاقة هذه الجماعة منذ نشأتها بحقوق الإنسان.. وان نسأل أنفسنا.. أين حقوق الإنسان عندما يسرق اللصوص من أرباب اللحي الكثيفة الغسيل الذي ينشره البسطاء.. فوق جدران مساكنهم الآيلة للسقوط.. وينتهكون أبسط حقوقهم في غسل الهلاهيل التي تستر عظامهم.
ويؤلمني أن هذه الجريمة.. لا تعرفها الأحياء الراقية.. التي يسكنها من يعرفون القراءة والكتابة.. ولا العمارات التي تتحرك بداخلها المصاعد.. وإنما تجري عادة في الأزقة التي يتقلب علي أرضها المارة كالثعابين ويسكنون بيوتا كبيوت النمل أو خلايا النحل.. وهي في حقيقتها مدافن للأحياء.. يطلق عليها العشوائيات التي تضم 71 مليون مواطن مصري.. علاوة علي الملايين من أطفال الشوارع. هذه الملايين الغفيرة.. لا تعرف الانتخابات.. ولا صناديق الانتخابات.. ولا الأحزاب.. ولا الدستور.. ولا حتي اسم رئيس الجمهورية.. ولكنها.. مع ذلك.. هي التي تحدد المسار الديمقراطي.. وهي التي يدفعها الفقر والجوع والمرض والأمية.. للانضمام إلي حشود رابعة العدوية والنهضة.. واحراق المباني التراثية.. ونهب المتاحف.. من أجل وجبة.. والاستمتاع.. بما يجري فوق المنصة التي لا يصدر عنها سوي أصوات الصراخ.. والتهديد بسفك الدماء.. والانتقام.. واحراق البلد.. وزرع الكراهية.
نحن إذن أمام مشكلة.. تفاقمت طوال الثلاثين سنة الأخيرة.. وأدت لانتشار عشوائيات.. وأحياء لا تصلها خدمات الدولة.. ابتداء من المياه النقية والصرف الصحي.. وحتي المدارس وفصول محو الأمية. وغابت الدولة تماما.. عن هذه المناطق.. التي تحولت بمرور الوقت إلي ملاجئ.. يتجه إليها الأشخاص الذين أمضوا سنوات العقوبة في السجون.. ويسعون لتقديم أنفسهم بشكل جديد.. وبأسماء جديدة. المواطن يخرج من باب السجن.. ويطلق لحيته.. ويتوجه لهذه المناطق الشاردة بعد أن يخلع علي نفسه صفة (الشيخ).. وهو لا يحفظ القرآن.. ولذلك فإنه يستخدم بعض أبيات الشعر.. أثناء الركوع والسجود.. ويصل الأمر ببعضهم إلي حد اطلاق الفتاوي التي تؤكد ان المواطن الذي يسرق اللصوص ثيابه في الدنيا.. سوف يعوضه الله عنها في الآخرة بملابس يتغطي بها ويتدثر! ولذلك تلاحظ ان لصوص الغسيل.. هم فئة واحدة.. لأن لص الغسيل.. هو الذي يسرق لص غسيل آخر.. وكلهم ضحايا وكل واحد منهم لا يملك سوي الجلباب الذي نشره وجلس في جحره.. في انتظار المحصول بعد تمام الجفاف. أما لص الغسيل.. فهو في الغالب ذلك الشحاذ.. الذي يمر بالزقاق مناديا: - ربنا يزيدكم من نعيمه.. يا أهل الكرم.. يا بخت من كسا عريانا.. وأكرم عابر سبيل.. الحسنة بعشرة أمثالها.. يا موحدين بالله! ثم يتحسس الجدران.. ويقتنص الفرص ليسحب الغسسيل ويخفيه بين طيات هلاهيله. ولذلك نقول ان الديمقراطية لن تتحقق في بلدنا.. إلا عندما يطمئن كل مواطن.. ان أحدا لن يسرق غسيله من فوق الحبل!
أعجبتني رواية الأديب الهولندي الشاب (دي ستوب) وهو من مواليد بمدينة انتفيرب سنة 8591.. لأنها تتناول موضوع سرقة الغسيل.. واختار لها عنوانا مثيرا هو: لموا.. الغسيل! "Hol Die Waesche Rein!". القصة باختصار شديد.. تروي هجرات الملايين من أبناء أوربا الشرقية إلي الغرب.. بعد انهيار النظم السياسية في دول أوربا الشرقية. بطلة القصة اسمها عزيزة وهي غجرية.. من يوغوسلافيا قررت الهروب من جحيم الصراعات العرقية في بلادها.. وأن تتجه سيرا علي الأقدام إلي ألمانيا. والغجر في العالم ليسوا فصيلة واحدة.. وإنما هم فصيلتان الأولي: هي فصيلة »الروما« والفصيلة الثانية: هي »السينتي«.. وعزيزة ماندوفا.. من فصيلة الروما. والغجر لا يعيشون في منطقة واحدة.. ولا في بيوت مستقرة.. وإنما يعتمدون في حياتهم علي التنقل.. أو كما تقول عزيزة »إننا شعب يحب الحرية«! ويقيم الغجر في حجرات متحركة مصنوعة من الخشب.. تقف فوق عجلات.. أشبه بعجل السيارات.. بها غرفة نوم وحمام ومطبخ.. وصالة بها تليفزيون.. ولا يميل الغجر للعمل في وظائف ثابتة. يتقاضون من خلالها مرتباتهم.. وإنما هم يعتمدون علي الأعمال الحرة.. باليومية! السيدات يجبن أحياء الفقراء.. لقراءة البخت والطالع والأطفال يعملون بالتسول.. والرجال يمضون الوقت في مراقبة كل ما يجري فوق الأرض.. بيد أن العمل الذي يشترك فيه الجميع هو: سرقة الغسيل! الغجر يسرقون الغسيل في كل قرية يمرون بها.. وهم لا يتحركون فرادي وإنما في مجموعات تضم المئات تقطع المسافات الشاسعة بالسيارات الخشبية التي تتحرك فوق العجلات.. والوقت لا يهم.. لأن حياتهم تعتمد علي التنقل.. ونبذ الخمول والكسل الذي يخرب البيوت العامرة. وعندما يصل الغجر لمنطقة ما.. يقال في الصحف المحلية ان أمن هذه المنطقة أصيب »بوباء الغجر«.. وهم يتجهون عادة نحو الكنائس من أجل التسول.. وإلي المناطق السياحية لنشل السياح أثناء المطاردة والإلحاح.. ويقوم الأطفال بمهمة النشل بمهارة فائقة.. ويتم عادة اخفاء المسروقات في جيب سري بالملابس الداخلية جدا.. للأمهات! وتحتفظ الأمهات عادة بابرة وفتلة.. لحياكة المسروقات الثمينة.. بالملابس الداخلية جدا.. التي لا تصلها الأصابع الأمنية.. عادة! ويطلق الألمان علي تحركات قوافل الغجر اسم »مسيرات الشحاتة« Bettelmarsch أي المجموعات المتجانسة من الشحاتين.. الذين يتفقون في الشكل الخارجي والملابس ولون البشرة.. ويتحدثون فيما بينهم بلغة مشتركة هي لغة الغجر.. ولهم نفس العادات والتقاليد.. ويتفقون في خصوصية فريدة.. كانت »عزيزة« تكررها دائما.. وهي عشق الحرية!
ولا أود في هذه العجالة.. تلخيص الرواية بالطبع ولا معاناة المواطنين الغجرية عزيزة ماندوفا.. ولكنني أردت فقط الاشارة لموضوع سرقة الغسيل.. وقول عزيزة انها كلما دخلت قرية سمعت أهلها يتهامسون من باب التنبيه والتحذير. لموا الغسيل.. الغجر وصلوا! أماني الشرقاوي - ماذا بك؟ - لا شيء! - أراك حزينة! وأراك متفائلا. - بالطبع فنحن علي وشك الزواج. تطلق زفيرا عميقا.. ثم تشخص ببصرها نحو النيل.. ثم ترنو إلي لحيته: - لقد تغير مظهرك! - وماذا يزعجك فيه؟ - هذه اللحية الكثيفة الكثة! - وأيضا مظهرك أصبح يزعجني. - هكذا أحببتني.. وهكذا أحب مظهري. - لدي أمل. - في ماذا؟ - أن تقتربي قليلا. - أنت من ابتعد. - أسمعت الشرائط الدينية التي أعطيتك إياها؟! - استمعت لشريط مرغمة فلم أتحمل سماع غيره. - لم؟ انزعجت بشدة.. لأنها تدعو لتردي ثقافي مرعب. وكأنها ألقت حجرا في وجهه.. شخص ببصره إلي النيل.. وعاد الصمت يجثم علي صدرهما.. قطعه بعد دقائق من الصمت قائلا: أراك متناقضة.. فأنت ملتزمة بالصلاة.. وقراءة القرآن وتؤدين كل فرائضك بانتظام.. أما مظهرك مزعج! - تهتم بالمظهر.. لا الجوهر ثم ان علاقتي الدينية بيني وبين الله وليس لأحد تقييمها. - إذن فليكتمل دينك بالحجاب. ببعض الحدة: - قلت لك علاقتي الدينية بيني وبين المولي.. هو من سيحاسبني. - وسيحاسبني عنك أيضا! - ربما كنت عند الله أفضل منك. - أشك! تجهمت.. وأربد وجهها فاحمر.. سحبت حقيبتها من فوق الكرسي المجاور.. وقامت من مقعدها.. فشد علي يديها يستبقيها ملحا عليها في الجلوس قائلا: - سامحيني.. لم أقصد.. سامحيني أرجوك. جلست وقد جثم علي صدرها حزن.. وبدا الموقف وكأنها ستدخل سجنا لا فكاك منه.. وأغرورقت عيناها بالدموع.. وأخذت تفكر في إلغاء كل الترتيبات التي اتفق عليها الأهل.. وبدا واضحا انه يعد لها فخا.. وسوف يرضيها الآن بكل ما تشتهي ثم يعاملها بعد ذلك.. كما كان يفعل الأزواج باناث الجاهلية. وبعد لحظات من التأمل قالت: - لقد أصبحنا نختلف علي كل شيء.. حتي الزفاف الذي نعد له منذ سنوات.. تريد تغيير مراسمه.. لذلك فإن زواجنا محكوم عليه بالفشل. - الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية! - ليس رأيا.. إنما هو مستقبل وحياة. - إذن نتفق علي حل وسط.. سأخف لحيتي قليلا.. مقابل غطاء رأسك. أوكيه؟
هذا الحوار العصري جدا.. جاء في واحدة من القصص القصيرة التي تضمنتها المجموعة القصصية.. التي صدرت عن دار الهلال منذ أيام للأديبة الشابة أماني الشرقاوي. وتتميز هذه المجموعة بمواكبتها للأحداث الجارية.. بعد اندلاع الحالة الثورية المجيدة في 52 يناير.. وتكشف الفجوة الهائلة.. بين عالم وصل فيه الإنسان إلي القمر.. واختفي فيه الفقر والجوع والتشرد.. وبين عالم يتثاءب ويتمطي.. ثم يعود إلي ما كان فيه من سبات.. واختفت فيه قضايا العمل والاجتهاد والنظافة والمساواة بين مخلوقات الله.. وباتت قضاياه العاجلة.. هي اللحية والحجاب.. ومنع مداعبة الأمهات لأطفالهن.. وفصل الأمهات عن أبنائهن لمنع احتمال حدوث أي احتكاك بين الأبناء من الذكور.. والأمهات! كلام معقول.. أليس كذلك؟!