اعتاد المؤرخون والرواة علي التأريخ للحكام والسلاطين، ولا شيء غير السلاطين، فلم يكتب أحدهم عن عذابات العمال الذين بنوا الأهرامات، أو الذين حفروا قناة السويس، أو الذين حفروا ترعة المحمودية بالسخرة، أو حتي الذين بنوا السد العالي، وغيرها من الأعمال التاريخية العظيمة.لم يؤرخوا لمن بني، وإنما أرخوا لمن اعتلي المنصة فخطب الخطب العصماء.نستثني منهم الجبرتي الذي أرخ للناس الذين كانوا يتلقون حمم نابليون وهم يقولون: يا سلام من هذه الآلام.. يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. وفي العصر الحديث قام الروائي عبد الرحمن منيف بكتابة كتاب عن عمّان في الأربعينات بعنوان (سيرة مدينة) وها نحن الآن نقرأ كتاباً لأمجد ناصر بعنوان(بيروت صغيرة بحجم راحة اليد.) وفيه يكتب يومياته بمشاعر شاعر روائي، ولكنه مؤرخ هذه المرّة لأحداث مزلزلة حدثت عام اثنين وثمانين، عندما احتلت إسرائيل بيروت كاملة، وأخرجت المقاومين الفلسطينيين من جوار فلسطين إلي أرض الشتات العرية.. ونادراً ما تقرأ لمؤرخ وصفاً صريحاً لشخصيات سياسية كما يصفها أمجد ناصر في كتابه إذ يصف الرئيس اللبناني (بشير الجميل) بكونه رجل الاحتلال الإسرائيلي..وحاكم عسكري عينه شارون ليتلقي أوامره من تل أبيب...وأن تعيينه دب الرعب في قلوب الفلسطينيين وكثير من اللبنانيين وكتب عن (كامل الأسعد) رئيس مجلس النواب بأنه راسخ في التواطؤ مع إسرائيل، عندما جيء بالنواب اللبنانيين تحت لمعان الحراب إلي الثكنة العسكرية ل(اختيار) مرشح الزحف اليهودي علي بيروت.. وفي يومياته لم يركز ناصر علي وصف خروج المقاتلين الفلسطينيين من بيروت، بقدر ما ركز علي أن تجارة الحقائب نشطت هذه الأيام..(كميات هائلة ومتنوعة منها ظهرت فجأة علي الأرصفة)..وهذا وصف روائي وليس مؤرخاً سياسياً، إذ يوضح أن التجارة ليس لها وطن ولا انتماء، إذ أن المهم لدي التاجر هو بيع الحقائب لتعبئة ملابس وحاجيات سفر المغدورين وهم يغادرون في سفينة الشتات..حيث ينتقل نصف شعب من المقاومين إلي الدار الآخرة في الشتات. ويصور الكاتب كيف اخترقت (مليونا) رصاصة سماء بيروت اللاهبة بينما المغادرون المرتدين زياً عسكرياً موحداً حاملين بنادقهم وأكياسهم الخضراء.وأما أنا (صبحي)فكنت أتمني الاحتفاظ بهذه المليونيات لأغراض دفاعية أو اقتصاد في النفقة. وينشر أمجد ناصر في كتابه قصيدة لم تنشر كانت مشتركة لمحمود درويش ومعين بسسسو، بعنوان(رسالة إلي جندي إسرائيلي) وفي هذا مصداقية كاتب، وكشف لقصيدة كان من الممكن أن تندثر لولا هذا الكشف الذي يسجل لصالح مؤرخه، ومنها نقتطف هذه السطور: نكتب لك..من قبل أن تُشعلُنا قذيفة أو تشعلك...رسالة المُحاصَر الأخير، للمحاصِر الأخير....نكتب من شظية أرسلتَها..لتحملك..من عتمة الجيتو إلي أجسادنا...نكتب لك لنسألك...إلي متي تُحاصِرُ الجزيرةُ البحرا؟..إلي متي تستخرج التفاح من ضلوعنا.. إلي متي توسع القبرا.. وتسكن القبرا..نكتب لك.. لنسألك..من الذي يحاصر الآخر؟ يا أيها السجان..هل أنت في أمان؟ يا ساكن الدبابة..هل يستطيع المرء أن يبول طول العمر في دبابة؟ هل يستطيع المرء أن يقرأ، أن يكتب في دبابة؟ هل يستطيع المرء أن يُطيِّر الحمام في دبابة؟.. يا قادماً من رحِمِ الدبابة...يا راجعاً لرحِمِ الدبابة.. إلي متي تظل في أمان؟ وفي الكتاب يقول ناصر ابن المفرق في شمال شرق الأردن، إن المكان العربي لا يصمد علي حال، فمن منا يستطيع العودة إلي البيت الذي ولد فيه؟ وهو هنا يرصد المكان الأعرابي المهاجر... ويتطرق حديث لبنان الحديث، إلي التاريخ القديم في زمن الفرعون أمنحوتب الثالث وابنه أخناتون، حيث كان الساحل السوري كله واقعاً تحت السيطرة المصرية. وعن المسيحيين في لبنان وخاصة الكتائب منهم، يقول الكتاب إن اتفاق الطائف تم علي حسابهم. روائي عربي من الأردن.