تمر الذكري العشرون من الوحدة الألمانية ولا نستطيع أن ننسي هذا المشهد عند بوابة براندنبورج عندما نقلت وسائل الإعلام مشهد الآلاف من أبناء الشعب الالماني شرقه وغربه يحتضنون بعضهم البعض والفرحة تضحكهم وتبكيهم في ذات الوقت ابتهاجاً بسقوط حائط برلين. يومها رأي العالم مدي القوة التي يمكن أن تنطلق من إرادة الجماهير حين تحركها شجاعة الإنسان؟ وكيف أن حنينه وشوقه إلي الحرية قادر علي تحقيق ما يدخل في نطاق المستحيل. وها نحن مدعوون بعد مرور عشرين عاماً من الوحدة الألمانية في تأمل الماضي واستقراء المستقبل دون أن نقع أسري لجمود الواقع أو رتابة الأحداث.. فمن عجب أن نري أن وثيقة الوحدة الألمانية كانت هي ذاتها شهادة ميلاد للوحدة الأوروبية وأن أحدهما أدي بلا منازع للوصول للآخر. أما ما هو أعجب من ذلك فهو أن شهادة ميلاد الاتحاد الاوروبي كانت ذاتها شهادة وفاة للاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي فتح الباب علي مصراعيه للتوسع في الوحدة الأوروبية لتضم في وضعها الحالي 27 دولة أوروبية تمتد من غرب أوروبا إلي شرقها والعدد آخذ في الزيادة دون تفرقة أو انحياز للغرب دون الشرق وهو أمر له بعده الملموس في استقرار السلام العالمي وتعميقه وإزالة آثار الحرب العالمية الثانية سواء الساخن منها أو البارد، وبذلك تطوي صفحة هامة بعد الستين سنة من انفصال المشرق الاوروبي عن مغربه وما حواه ذلك من ترقب وتربص كاد يصل في بعض مراحله للمواجهات العسكرية، وبذا أصبح الاقتصاد والتنمية هما العنصر الحاكم للعقلية الأوروبية متربعاً علي عرش الأولوية الأولي دون منازع. أما مشهدنا اليوم بعد انقضاء ستين عاماً من هذه الأحداث,فانه تحقيق لوحدة مستقرة الطوية تضم 27 دولة متفاوتة في قوتها الاقتصادية إلا أنها تشترك جميعاً في الرغبة في المشاركة في إنشاء أوروبا القوية القادرة علي التواجد كقوة اقتصادية ثالثة علي أرض الواقع في عالم تسوده الأنواء الاقتصادية والأخطار المحدقة من كل جانب.. أما جميلة الجميلات برلين فها هي تستعيد ملامحها وتستكمل مرافقها لتفرض نفسها بقوة الواقع عاصمة لأوروبا الموحدة علي المدي المتوسط أو البعيد، فلها اليوم أكبر وأجمل محطة سكة حديد لا يضاهيها في تفوق عماراتها وحداثة مرافقها أي محطة سكة حديد في العالم, وعما قريب يكتمل مطار برلين ليصبح المطار الأكبر في أوروبا، كما أن التوسع المستمر والتحديث المتكامل الرابط بين شرق وغرب برلين آخذ في الاستكمال لتكتمل الصورة عما قريب بمقياس العشر سنوات القادمة لتتبوأ برلين مكانتها المنشودة.. ولا نستطيع أن نمر مرور الكرام علي حركة العمار والإعمار والتطوير في مجال السكك الحديدية ومترو الأنفاق والبنية الأساسية دون أن نذكر أحد الشخصيات المحورية في هذا التطوير وهو المصري الصعيدي الطباع والأصل المهندس هاني عازر ذلك الرجل الذي حاز ثقة قطاع الإنشاءات في مجال السكك الحديدية ومترو الأنفاق وغيرها ليتبوأ دون منازع أعلي مراتب التقدير كالمهندس الأعلي شأناً في التخطيط والإشراف علي تنفيذ جميع المرافق المرتبطة بالسكك الحديدية.. ومترو الأنفاق ومحطة برلين، ربما يذكرنا بالمهندس حم يوتو باني الهرم الأكبر كما لو كان هاني عازر ليس سوي امتداد للعبقرية المصرية عبر الزمان والمكان لتثبت ذاتها في مجتمع الفرص المكافئة علي الأرض الألمانية. هذا الأمر يقودنا إلي العلاقات المصرية الألمانية المترسخة عبر الزمن كنموذج يحتذي به بمقياس النضج السياسي والوعي الاقتصادي والرؤية المستقبلية والاهتمام بأساسيات التنمية البشرية وبناء الإنسان.. فها نحن نذكر بالإعزاز والتقدير الدولة الصديقة ألمانيا الاتحادية والتي يمثلها المرحلة الحالية سفيرها الهمام لدي مصر الهر ميخائيل بوك والذي يحرص في كل مناسبة أن يلقي كلمته بالعربية أمام الحضور من المصريين والذي يجيد معظمهم الألمانية إزالة للفوارق وانحيازاً للمصريين في لغتهم ومنطقهم وكيف أن ألمانيا الصديقة قد بدأت منذ أكثر من مائة عام في إنشاء مدارسها الثلاث بالقاهرة والإسكندرية لتوفر مستوي تعليميا راقيا لأبناء مصر وأبناء الجالية الألمانية دون ثمة تفرقة بينهما.. والأمر ليس يسيرا في المحافظة علي استمرارية هذه المدارس عبر قرن من الزمان تخللته سنوات عجاف في العلاقات المصرية الألمانية أتت بها أنواء سياسية علي غير رغبة من أطرافها قطعت فيها العلاقة بين البلدين دون أن تقطع أواصر الصداقة وقوة المنطق فظلت المدارس تؤدي خدماتها لأبناء مصر بتكلفتها المالية الباهظة تؤديها ألمانيا دون الالتفات لكبوة قطع العلاقات. أما حديثاً فقد توج هذا النشاط التعليمي بإنشاء الجامعة الألمانية بالمشاركة مع الحكومة الألمانية والحكومتين المحليتين لإقليم بادن فيرتنيرج وإقليم بافاريا وشراكة أكاديمية مع جامعتي شتوتجارت وجامعة أولم وما استتبع ذلك من مد جسور التدريب الصيفي لطلبة هذه الجامعة الألمانية في مصر بفرص تدريبية بالمصانع والشركات الألمانية. ولا نستطيع أن ننسي الفضل الذي شاركت به ألمانيا مصر في نقل معبد أبو سمبل من موقعه السابق إلي موضعه الحالي. ومن الوقائع التي نذكرها ونحن طلبة بكلية الهندسية حينما طرقنا أبواب معهد جوته لنتزود باللغة سعياً وراء فرص التدريب الصيفي بألمانيا أن تعداد مدينة القاهرة في بداية الستينات كان 5 ملايين مواطن بما يماثل تعداد مدينة باريس في ذلك الوقت إلا أن الطلاب المصريين الدارسين للغة الألمانية بمعهد جوته وصل إلي عشرة أضعاف الدارسين الفرنسيين بمعاهد جوته في باريس وهو مقياس جديد لقوة العلاقات المصرية الألمانية علي مستوي الشباب والطلبة. بقي أن نرسل تحية خالصة للشعب الالماني الذي تمسك بقيمة العمل وأعلي من شأنه فأمسك بذلك بمفتاح النجاح في الماضي والحاضر عابراً إلي المستقبل وهو تاريخ حافل يحتذي به ويضرب به المثل لكل من يسعي لتحقيق ذاته فالعمل والعمل الدءوب والعمل المجرد من كل شيء سوي الجودة هو الطريق الوحيد للنجاح المستقر والممتد. وتحية للقيادة السياسية في مصر وألمانيا التي ترعي العلاقات المصرية الألمانية بكل عزيمة وإخلاص متطلعة إلي ما فيه خير الدولتين عملاً بالمقولة الشائعة أن ما هو في مصلحة مصر هو أيضاً في مصلحة ألمانيا وعكس ذلك صحيح من أن المصلحة الألمانية تصب أيضاً في المصلحة المصرية.