عندما استقل جنود الأمن المركزي قطار أسيوط في طريقهم إلي محطة مصر .. لم يكن أحد منهم يدرك أن هذه الرحلة المشئومة ستحمل للكثير منهم النهاية لحياتهم بينما يصاب أكثرهم اصابات خطيرة وجسيمة تصل إلي قطع الأرجل أو الأيدي وأن سخريتهم جميعا من سوء حالة عربات القطار الاثنتي عشرة التي لم تكن تصلح لنقل الآدميين خاصة أن زجاج النوافذ كان مفقودا وأن كراسي العربات كانت لا تصلح للجلوس عليها. ولكنهم جميعا استسلموا للنوم رغم قسوة الجو البارد ليلا إلي أن جائت لحظات القدر القاتلة وأمام مركز البدرشين فوجئ هؤلاء الجنود بخروج آخر عربة بالقطار عن القضبان الحديدية مما أدي إلي انقلابها ليكتمل المشهد المأساوي بوجود قطار آخر للبضائع ويحدث التصادم المروع الذي أسفر عن موت 19 وإصابة 117 آخرين بإصابات خطيرة للغاية نتيجة تطاير أجسادهم إلي خارج العربة ولعب القدر لعبة أخري عندما كان الظلام الدامس يخيم علي مكان الحادث ولا أحد من الركاب جميعا يتصور حجم المأساة ولا يري من بجواره ومن مات ولا يعرف حتي من أصيب وكان لصوت الارتطام القوي الفضل في شعور أهالي البدرشين بالحادث فهرعوا جميعا إليه و تسابقوا في حمل ونقل المصابين إلي مستشفي البدرشين في سياراتهم وفي سيارات الشرطة وأيضا في سيارتي الاسعاف اللتين جاءتا بعد ذلك في محاولة مخلصة لانقاذهم من الموت المحقق ولكن نظرا لقلة الامكانات وضيق الوقت تم نقل باقي الضحايا إلي مستشفي الحوامدية لانقاذهم ثم تم نقل الحالات الخطيرة إلي مستشفي المعادي للقوات المسلحة وبالطبع لم تنم البدرشين وأيضا الحوامدية حتي الصباح عندما بدأ وصول المسئولين إلي الموقع للتحقيق في أسبابه خاصة رجال النيابة العامة الذين تبين لهم من أقوال سائق القطار أنه خرج به مباشرة من ورشة الصيانة وأن مسئول الصيانة أخبره بأن القطار علي درجة عالية من الناحية الفنية .. وكان جميلا أن نري رئيس الجمهورية يزور مصابي الحادث بمستشفي المعادي وأن يقدم العزاء لأسر الضحايا بينما قرر رئيس مجلس الوزراء صرف 30 ألف جنيه لأسرة المتوفي و20 ألف جنيه للمصاب ولكن لم يكن جميلا أبدا ألا يحضر وزير النقل أو رئيس هيئة السكة الحديد ولا حتي رئيس مجلس الوزراء اجتماع لجنة النقل بمجلس الشوري عندما ناقشت تداعيات الحادث الأليم وفضلوا جميعا الصمت وكأن الضحايا لا ينتمون إلي مصر وربما جاء هذا التجاهل لأننا في كل مرة تقع فيها حادثة مماثلة تسيل فيها دماء الأبرياء علي قضبان ومزلقانات السكك الحديدية لا نجد مسئولية جنائية أو سياسية تقع علي كبار النقل والسكك الحديدية بل دائما ما يدفع الثمن عمال بسطاء يعملون في ظروف قاسية ويتقاضون أقل الرواتب ..ولعلنا نذكر أن عامل المزلقان وملاحظ المحطة في حادثة قطار أسيوط التي وقعت مؤخرا وراح ضحيتها أكثر من 50 طفلا بريئا دفعوا حياتهم ثمنا للاهمال في صيانة وعمل مزلقان للسكة الحديد هذان العاملان تم إحالتهما منذ أيام قليلة إلي المحاكمة الجنائية ورغم أن الدنيا قامت ولم تقعد لعدة أسابيع بعد هذا الحادث المؤسف وصدور تصريحات عنترية عن تطوير هذا المرفق الحيوي بقطاراته ومزلقاناته إلا أن لاشيء تحقق ولم نسمع عن بارقة أمل في التحسن .. ويكفي أن نذكر أن هناك سبعة حوادث ضخمة وقعت بسبب قطارات الموت خلال الستة شهور الماضية وراح ضحيتها مئات من القتلي والمصابين ولكن لا أحد يتحرك بضمير أو بإخلاص وكأننا نعيش في عالم آخر غير وطننا وبعيدا عن شعبنا .. ولكِ الله يا مصر.