تروي لنا الطبيبة البيروتية د. غادة اليافي، التي تملك إحساساً وطنياً صادقاً ملتحفاً بالثقافة الجادة، ما حدث بالبطريركية الأرثوذكسية العربية في دمشق حول ما فعلته في أثناء المجاعة التي عمت بلاد الشام في الحرب العالمية الأولي (1914 - 1918) فعندما وقعت المجاعة فتحت البطريركية أبوابها لإطعام الجياع بغض النظر عن الدين والمذهب وحتي منهم الوافدون من بيروت. ورهن البطريرك غريغوريوس حداد (الذي ينتمي إلي قرية عبيه وهي قرية لبنانية من قري قضاء عاليه في محافظة جبل لبنان. لها تاريخ عريق في نشأة الإمارات العربية في لبنان مثل الشهابيين. وكانت منطلق الثقافة والتعليم حيث أسس العثمانيون والإرساليون الاجانب المعاهد والإرساليات)، أقول رهن الأب البطريرك فيها أوقاف البطريركية والأديرة كلها للاستدانة وباع مقتنياته ومقتنيات الكنائس التي تحكي تراث البطريركية الروحي وجذورها في الشام، كما باع صليبه الماسي الذي يضعه علي صدره والذي كان قيصر روسيا نقولا قد أهداه له عام 1913. وكانت البطريركية تشتري القمح بأسعار مكلفة جداً لهذا الهدف الوطني والإنساني النبيل حتي ان البطريرك التالي الكسندروس طحان باع كل هذه الأوقاف ليفي الديون وفوائدها الفاحشة. ومن جراء ذلك، خسرت البطريركية الأرثوذكسية كل ممتلكاتها ولكنها ضربت أروع مثل في الأخوة. وعندما مات البطريرك غريغوريوس حداد، شارك خمسون ألف مسلم دمشقي في جنازته عام 1928. قاد هذا البطريرك بين 1916 و1918 الصف المسيحي مع الشريف حسين وابنه الأمير فيصل للتحرر من نير الأتراك وبايع فيصل ملكاً علي سورية في عام 1920. وبعد استشهاد البطل يوسف العظمة في ميسلون ودخول غورو الي دمشق، كان البطريرك هو الوحيد الذي ودع الملك فيصل في محطة القدم. فبكي فيصل عندما قال له الأب البطريرك "ان هذه اليد التي بايعتك ستبقي وفية لك الي الأبد". فحاول فيصل تقبيلها لكن البطريرك سحب يده وقبله في جبينه. ما أروع أن يتمتع الإنسان بأصدقاء يجمعون بين الوطنية والإحاطة الثقافية. فعلاً لا يملك الإنسان إلا أن ينحني إجلالا لهؤلاء الكبار في نفوسهم، الثابتين في إيمانهم. جميع الأديان تحث علي المحبة والتآلف والتجانس والتعاون. رجل الدين يجب أن يكون أبا حكيما يرشد إلي صالح الأعمال، أقول لكم في وطنية الكنيسة القبطية التي تردد في صلواتها اليومية صلوات خاصة باليتيم والغريب والضيف، صلوات من أجل مياه النيل والزروع والعشب وأهوية السماء وثمار الأرض، صلوات من أجل مداخلنا ومخارجنا (أي عائلاتنا وجيراننا) إذ تطلب من أجلهم وتقول: (زينهم يارب بكل سلام، أملأ قلوبهم وقلوبنا بكل سلام وفرح حتي نزداد في كل عمل صالح). ما أجمل أن يتزين الانسان بالسلام ويتزي بالتواضع. لن تعود مصر إلي سابق عهدها في الأمن والسلام إلا من خلال المحبة الصادقة التي تسود بين أبناء الشعب الواحد. يا سادة طالعوا التاريخ جيداً ففي قصص التاريخ عظات بليغة وحقائق أكيدة. مبارك شعبي مصر. مصر العظيمة قدمت للعالم كله الرهبنة القبطية في نسكها الحقيقي وتقواها وتعبدها الصادق، وقدمت الأزهر الشريف في إعتداله ونضجه. مصر قدمت للعالم أول تقويم عرفه التاريخ. مصر قدمت للعالم أساتذة العمل الوطني الجاد. مصر قدمت للعالم المرأة المصرية الواعية في جميع المجالات. بطاركة الكنيسة القبطية - علي مر العصور - كانوا أمثلة حية في الوطنية الصادقة. علماء الأزهر الشريف كانوا قادة التنوير في جيلهم. في ثورة 25 يناير هتف العالم كله وقال: (اسلكوا كالمصريين)، أين هي الثورة الآن؟ لقد تمت سرقتها ومن لا يملك أعطي وعداً لمن لا يستحق!!