د. أحمد درة إذا أردت أن تكسر إرادة أي شعب فهشم روحه وشرذم مكونه الإنساني، واتلف ثقافته لينسي تاريخه، هذا ما يتم الآن حتي تنتهي الثورة المصرية، وتنفض قواها وتنطفيء جذوتها. وكما قام الزلزال فصدم التجمعات الامبريالية المتخذة من الشركات العولمية أذرع أخطبوطية لها، أعادت هذه القوي الزئبقية تجميع نفسها من جديد، ونظمت صفوفها حتي لا يستمر الربيع المصري أطول من ذلك، وحتي يذوق الشعب المصري بعناصره الحقيقية وبال أمره ويندم علي ما قام به من عمل تاريخي. لقد كانت مصر عظيمة وشعبها يلتحم في الثمانية عشر يوما، ولولا هذا الالتحام العبقري لفشلت الثورة منذ هذه الأيام، ولكن أخطر ما بدا في الأفق الانقسام المبكر والانحراف الذي حول الثورة إلي معارك سياسية غير ناضجة وإلي معسكرات فكرية متصادمة، تصاعدت حدة صدامها فنتج شرخ عميق طولي في جدار الروح المصرية، ولعل ما نراه في هذه اللحظة هو نتاج طبيعي لازدياد الصراع والتفات الجميع وعلي رأسهم تيارات الإسلام السياسي عن المصالح العليا للبلاد. لقد غرقنا في مؤلفات المجلس العسكري، وتفنيناته السياسية والقانونية، فرسب في أول اختبار حقيقي، وانتهي الأمر إلي اعلان دستوري مفكك تملؤه الأخطاء وترقشه ثغرات وسقطات لايقع فيها حتي هواة السياسية والقانون. ونبه الوطنيون من الكتاب والمفكرين إلي هذه الكارثة التي فيها يقف الدستور والقانون المصري علي يديه ورجلاه معلقتان في الهواء، ولم يستجب أحد ولم نسمع إلا صدي أصوات مغلوبة علي أمرها، كأن المجلس العسكري يمارس نفس السياسة السابقة للنظام الذي سقط أذن من طين وأخري من عجين، ولم يدر الشعب المصري أن هذا الاعلان الدستوري هو شيء غير المواد التي تم استفتاؤه عليها. لذلك ضلت أقدام المصريين الطريق، وكان من المتوقع أن تزداد الصراعات، وتزداد لغة التكفير والتخوين وكذلك تزداد الانقسامات داخل التيارات الناتجة عن الثورة والائتلافات التي ولدت في ميدان التحرير، وكانت أحداث محمد محمود وماسبيرو ومحمد محمود الثانية ومجلس الشعب وحرق المجمع العلمي كلها اشارات إلي ابتعاد القوي الوطنية عن بعضها البعض وتحالف واضح بين المجلس العسكري وتيار الإخوان المسلمين، وبقيت قوي من الإسلام السياسي علي موقفها من المجلس العسكري مطالبة برحيله حتي لا ينتهي الأمر. كما انتهي بقرار إقالة طنطاوي وعنان وتبخر المجلس العسكري كأنه لم يكن هنا. صارت مصر الدولة تائهة غير متواجدة إلا في بعض المؤسسات مثل القضاء، بسبب هذا الحشد الممنهج والمدروس لنادي القضاة ومعه في نفس الخندق طائفة وطنية من المفكرين والساسة الذين لم يقبلوا ولم يقبلوا علي طعم المناصب الاستشارية الواهية، ففطنوا إلي ما يجري، وقد كاد أن يجري عليهم بعزل النائب العام، فكانت الشرارة التي خرجت من نادي القضاة لتوقف الهجمة القوية علي القضاء والتي اتسمت بالنزق والتسرع، فباءت بالفشل. إن هناك أسراراً مازالت في طي الكتمان، وغموضا يلف تفاصيل ما جري وما يجري حتي يستعيد الإخوان المسلمون السيطرة علي مجلس النواب بغرفتيه في أي انتخابات قريبة وفي سبيل ذلك يمكن أن يستجيب الرئيس للمطالبات بإقامة التوازن في الجمعية التأسيسية للدستور، وكذلك السماح للقوي السياسية المعارضة له ولجماعته بتمثيل أكثر في هذه الجمعية التي ستحل في غضون أيام وسيقوم هو بتشكيلها وأقول أيضا سيقوم بتجميلها حتي تهدأ الأصوات من حوله. ولقد نري مشاهد كثيرة من الاعتراض والانفعال، ومزيدا من الانفصال عن قضيتنا الأولي التي هي قضية حياة أو موت، لم يجد معها أضغاث المائة يوم ولم ينفع مصر من وراء ما اذاعه المسئولون من الخير العميم المؤمل من وراء مشروع النهضة أو هوامشها، إن أحدا وسط هذا الصراع وهذا الصراخ، وهذا الهزال الذي أصاب الوطن، لم يلحظ كم فقدت العملة المصرية من قيمتها خلال الستة أشهر الماضية، وكم فقد الوطن من استثمارات.. وكم فقدت الثورة من روحها.