لم يكن هناك مجلس شعب يسأل أو يعترض بل كان هناك مجلس لا يصلح الا للتصفيق الحاد السبت : هللت الصحف الحكومية المصرية ورقصت فرحا يوم أن ذهب الرئيس أنور السادات إلي القدس ووقف يخطب في الكنيست .. كانت المرة الأولي وربما الأخيرة التي يعتلي فيها رئيس عربي منصة الكنيست ليخطب خطبته الشهيرة في خطوة وصفها المراقبون يومها بغير المسبوقة .. لم تكن الصحف وحدها فقد وظف التليفزيون المصري كل طاقاته لنقل هذا الحدث الهام علي الهواء مباشرة من الكنيست الإسرائيلي بل وأنشئت محطة للبث المباشر من داخل مبني ماسبيرو . مازلت أذكر تلك الأيام .. كانت في العام 1977 .. ولم تكن الصور متاحة الا من خلال وكالات الأنباء العالمية فقط .. في هذه السنوات الخوالي كنت أعمل محررا بصفحة التليفزيون ووقتها طلب المرحوم الأستاذ موسي صبري رئيس تحرير "الأخبار" التصوير من التليفزيون كي تتوافر لنا في " الأخبار" عدة صور تكفي للنشر في حوالي خمس صفحات علي الأقل أو أكثر .. ذهبت ومعي زميلي وأخي الأكبر المرحوم رضا مصطفي المصور الصحفي إلي ماسبيرو قبل البث وفي المحطة المخصصة للبث علي القمر الصناعي يوم 20 نوفمبر 1977بدأت مراسم وصول السادات إلي القدس وظللنا نصور حتي استهلكنا كل الأفلام التي نحملها معنا .. كانت النتيجة جيدة جدا فقد انفردت " الأخبار " يومها بنشر العديد من الصور للرئيس في الكنيست وفي اليوم التالي أخذنا وجهتنا إلي ماسبيرو وهكذا حتي انتهت الزيارة وعاد السادات إلي أرض الوطن ..كانت مصر كلها تحبس أنفاسها ولم يكن هناك في العالم العربي من يصدق الخطوة الجريئة التي قام بها السادات الذي كان يؤمن إيمانا عميقا بالسلام وأنه لا سبيل لإقرار السلام بين العرب وإسرائيل الا بعمل غير مسبوق يحطم جدار العزلة بين مصر والعدو الأول. كانت زيارة القدس بداية لخطوات السلام بين مصر وإسرائيل تبعتها مباحثات شاقة في معسكر كامب ديفيد بين السادات ومناحم بيجين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأمريكي جيمي كارتر ولعلنا نتذكر في تلك الأيام جاءت لنا دفعة من المعونة الأمريكية وكان من بينها الاتوبيس الذي اسماه المصريون " كارتر" نسبة للرئيس كارتر. وقبل يومين من رحلة السادات للقدس استقال إسماعيل فهمي وزير الخارجية لاعتراضه علي الرحلة التي لا يراها "بداية محاولة تحقيق السلام في الشرق الأوسط بل علي العكس من هذا لقد كانت تحركا غير رشيد في لعبة معقدة وطويلة للسلام... لم يكن غريبا أن تبدأ إسرائيل ولأول مرة بعد زيارة السادات للقدس وتحت راية السلام بالعربدة في الضفة والقطاع والقدس. وضد العراق. ثم تغزو لبنان غزوا كاملا." .. وفي كامب ديفيد استقال محمد إبراهيم كامل الذي تولي حقيبة الخارجية بعد فهمي لمعارضته الاتفاقية وسماها مذبحة التنازلات، وكتب مقالا في كتابه "السلام الضائع في اتفاقات كامب ديفيد" المنشور في بداية الثمانينيات أن "ما قبل به السادات بعيد جداً عن السلام العادل" وانتقد كل اتفاقات كامب ديفيد لكونها لم تشر بصراحة إلي انسحاب إسرائيلي من قطاع غزة والضفة الغربية ولعدم تضمينها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وتم تعيين الدكتور بطرس غالي الكبير وكان وزيرا للدولة للشئون للخارجية ليكمل مع السادات توقيع اتفاقية كامب ديفيد لتبدأ صفحة جديدة في العلاقات بين مصر وإسرائيل .. ومن الكامب خرجت بعض الأسرار منها أن المباحثات كادت أن تنتهي بدون اتفاق فقد كان كل طرف يسعي للحصول علي كل المكاسب وكان الداهية الأعظم " الشيطان" هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي مهندس اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل واتفاق الخطوة خطوة ومباحثات الكيلو 101 يوظف كل إمكانياته لتخرج إسرائيل من الاتفاق بأكبر قدر من المكاسب وقيل وقتها علي سبيل النكتة أن السادات طلب من بيجن الاسراع في التوقيع لكنه رفض وقال له : أنت عندك مجلس شعب سيقول لك آمين أما أنا فلا يمكنني التوقيع الا بعد الرجوع إلي الكنيست وأخذ موافقة جماعية علنية ! المهم تم توقيع الاتفاقية في كامب ديفيد في 17 سبتمبر سنة 1978 م من ثلاث نسخ باللغات العربية والعبرية والإنجليزية ، وتعتبر جميعا متساوية الحجية وفي حالة الخلاف في التفسير فيكون النص الإنجليزي هو الذي يعتد به.. ولهذا حديث آخر حول نصوص هذه الاتفاقية الظالمة التي لم تعط للمنتصر حقه وانما أخذت منه الكثير. وظل السادات يحكم مصر حتي اغتياله في حادث المنصة يوم 6 أكتوبر عام 1981 .. لم يسأل أحد في مصر كلها عن نصوص الاتفاقية والتنازلات التي قدمها السادات وظلت الاتفاقية محظورة تماما علي الجميع .. لا أحد من حقه أن يناقش أو يستفسر وبدأ عصر جديد في مصر مع الإرهاب الأسود الذي طال كل شيء حتي الرئيس نفسه . لم يكن هناك مجلس شعب يسأل أو يعترض بل كان هناك مجلس لا يصلح الا للتصفيق الحاد .. كلنا نعرف موقف الأمة العربية مما حدث وإنشاء جبهة الصمود والتصدي بزعامة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين وقطع العلاقات مع مصر الا من ثلاث دول هي السودان والصومال وسلطنة عمان .. كان العرب في مرحلة عدم التوازن يعانون من الصدمة الشديدة .. كانوا يعلمون أكثر من غيرهم أن مصر خرجت من المعركة وعليهم أن يواجهوا إسرائيل وحدهم .. وتحولت القاهرة من مركز الثقل العربي ونقطة الارتكاز إلي عاصمة لا حول لها ولا قوة في هذه الايام.. كان العرب في مأتم فقد فقدوا الأخ الكبير فجأة وبدون مقدمات ولم نكن في مصر نعلم حجم الكارثة التي أوقعنا فيها السادات وأننا سوف ندفع ثمنا غاليا فيما بعد في جزء غال وعزيز علينا .. فقد كانت سيناء الثمن .. خرجت إسرائيل من الاتفاقية بكثير من المغانم فقد فرغت سيناء من الجيش المصري وحق الإسرائيليين في زيارة المعالم والآثار اليهودية في أي مكان بمصر وبقاء نصب تذكاري للطياريين الإسرائيليين في الشيخ زويد وتفرغت إسرائيل للبناء بعد أن كان كل جيشها مشغولا بالحرب .. كسبت كل شيء وخسرنا نحن الكثير وما وصلنا اليه الان في سيناء ما كان يحدث لو كان لدينا برلمان قوي يواجه الرئيس ويستجوبه بل ويعزله.. ولعلنا قد وعينا الدرس فمن الضروري تقليص صلاحيات الرئيس .. أي رئيس حالي أو قادم حتي لا ينفرد بالقرار وحده ويذهب هو وتظل مصر وحدها تدفع الثمن . وإلي الذين يضعون الدستور الآن مصر أكبر من الجميع ومصلحتها العليا تعلو علي الكل ودستورها أمانة في أعناقكم.. خرج السادات منتصرا من حرب اكتوبر 1973 وكتب له التاريخ هذا الانجاز وفي كامب ديفيد خسر الكثير من انجازاته.