جملة اعتراضية في تاريخ الوطن! الهيمنة علي الصحافة والإعلام هي سلاح الجماعة في معرگتها المقبلة حول الدستور مع القوي المدنية ومعرگتها المؤجلة مع الجيش لست أظن أحداً من زملائي في »الأخبار« يرضي بأن تتحول الجريدة الأولي في مصر من صاحبة جلالة إلي مِلك يمين! كنت أدلف مسرعاً إلي مصعد المبني التاريخي لدار »أخبار اليوم«، رفعت عيني فشاهدته، توقفت للحظة، لكنه أومأ لي وهو يبتسم ويشجعني علي الصعود معه، أخذت أتفرس في ملامحه الحادة، ونظر إلي بعينيه النفاذتين وسألني: أنت معانا هنا. أول مرة أراك. قلت هذا أول يوم لي في التدريب بجريدة »الأخبار«، أنا طالب في السنة الأولي بكلية الإعلام. رد قائلاً: علي أيامنا كانت الصحافة صاحبة جلالة الآن أصبحت صاحبة عصمة أرجو أن تعود إلي عرشها من جديد علي أيامكم!.
حدث ذلك منذ ثلاثين عاماً إلا ثلاثة أشهر كان محدثي هو عملاق الصحافة الأستاذ مصطفي أمين وكان يأسف علي أوضاع الصحافة التي تدني بها الحال من ملكة صاحبة جلالة تأمر وتنهي، إلي سيدة مهذبة تأتمر بأمر سيد المنزل.. أي سيد للمنزل!. منذ عام ونصف العام.. تحقق أمل أستاذ الأجيال مصطفي أمين وأمنية كل الصحفيين بدار أخبار اليوم وبالصحف القومية عموماً وعادت الصحافة المصرية صاحبة جلالة، ملكة علي عرش الرأي العام، تحكم باسم الناس والحقيقة وحق القاريء في المعرفة. .. والفضل لثورة 52 يناير 1102. جئت إلي موقعي رئيساً لتحرير »الأخبار« يوم 81 يناير، أي قبل أسبوع بالضبط من ثلاثاء الثورة. كنت سعيد الحظ بتواكب الموقع مع الحدث الهائل. قبل أن أنتهي من ترتيب أوراق مكتبي ووضع خطة التطوير الأولي للجريدة، وقع الانفجار. دونما لحظة تردد، أو وقفة تحسب، أو تمسك بحياد زائف وموضوعية في غير موضعها، ودونما انتظار حتي يستبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، اتخذت »الأخبار« قرارها، انحازت إلي الناس.. إلي الثورة ومطالبها. كانت »الأخبار« أول من استخدمت في عناوينها كلمة ثورة وأول من أطلقت لقب شهيد علي أول ضحاياها. لم نكن ننتظر مقابلاً لموقفنا، إلا أن نستعيد ثقة الشعب الذي نحن منه وملكه، وأن نسترجع مصداقية صحيفة عريقة، تحولت تحت حكم الاستبداد ومعها كل الصحف القومية من جرائم تعبر عن الجميع إلي صحف تنطق بلسان الحكومة ثم إلي صحف حزبية تتحدث بصوت مجموعة بعينها تهيمن علي الحزب الحاكم، كنا نريد استرداد شرف مهنة أريق تحت سنابك الطغاة في جمهورية الخوف. ما هي إلا أسابيع معدودة، وتحقق لنا ما أردنا وكافأنا القاريء بإقباله علي الجريدة، فقفز توزيع »الأخبار« وتضاعف، وأصبحت الجريدة الأولي توزيعاً وانتشاراً وتأثيراً واستحواذاً علي اهتمام القاريء بفنها الصحفي وانفراداتها. وعلي مدار 81 شهراً مضت، حظيت جريدة »الأخبار« ومعها كل الصحف القومية بحرية في النشر والرأي والتعبير، لم تحظ بها منذ عقود. وأشهد أن أحداً في الحكم أو السلطة لم يرفع سماعة التليفون ليطلب مني نشر خبر أو التعتيم علي حدث أو منع كاتب أو التضييق علي رأي، ولعل من راودته فكرة كهذه وأحجم عنها، سعيد الحظ، فلو تجاسر واجترأ لسمع ما يكره وطالع ما يسوؤه!.
رغم كل ذلك لم تساورني أبداً أي أوهام، عن سرمدية تمتع الصحافة بحريتها!. وأذكر جيداً ما قاله قيادي كبير في جماعة الإخوان المسلمين في محفل جمعنا معاً عن نظرة الجماعة للصحافة. فقد قال بالحرف: »نحن لا نهاب المجلس العسكري، ولا شطحات شباب الثورة، إنما نخشي الصحافة والإعلام فهما أخطر الأسلحة في مواجهتنا«!. ومبكرا كتبت في هذا المكان عن رغبة الجماعة في الاستحواذ علي كل مفاصل الدولة المصرية، وتساءلت في مقال آخر: »هل يريد الإخوان الحكم أم التحكم؟!«، وقلت في هذا المقال بالتحديد يوم 81 مارس الماضي، إن الخطوة القادمة للإخوان بعد الهيمنة علي البرلمان بمجلسيه، وقبل أو بعد الانتخابات الرئاسية هو تغيير رؤساء تحرير الصحف القومية، ليتسني لهم توجيه الرأي العام إلي حيث يريدون. كنت مقتنعاً ومازلت بأن المسألة ليست مجرد تطبيق نصوص قانون أو تغيير أشخاص بآخرين، وانما هي الرغبة في السيطرة علي الصحافة القومية، ثم الضغط علي الصحف المستقلة والفضائيات الخاصة بنفس طريقة النظام السابق، لكن بأسلوب أكثر رداءة وفجاجة في سياق أعم وأشمل، يستهدف استخدام الصحافة والإعلام كآلة تمكين للجماعة، وأداة تيسر لها سُبل الحصول علي الأغلبية في الانتخابات البرلمانية القادمة، وسلاح لها سواء في معركتها المقبلة مع القوي المدنية علي مواد الدستور وطبيعة الدولة المصرية، أو في معركتها المؤجلة مع الجيش، والرامية لتغيير جيناته وأخونته، وهي معركة آتية حتما، وأكاد أري وهج لهيبها وأسمع دوي صدامها! لم يكذب مجلس الشوري نبوءتي! فمنذ جاء، لا وظيفة له إلا الحديث عن تغيير رؤساء تحرير الصحف القومية بالجملة والحق أنه لا توجد له أي وظيفة أخري! وكانت حجته ان المدة القانونية لرؤساء التحرير قد انتهت، رغم ان معظمهم جاء منذ عام ونصف وبعضهم تولي المسئولية قبل 4 شهور مضت! حضرت واحدة من جلسات الاستماع التي عقدها مجلس الشوري، وقلت بالحرف: إنني أري أنه لا ضمان لحرية الصحف القومية إلا بإلغاء تبعيتها لمجلس الشوري، وانشاء هيئة مستقلة تشرف عليها، واقترحت أن يتم اختيار رؤساء التحرير بالانتخاب من جانب الأسرة الصحفية لكل جريدة. لكن مجلس الشوري وعصمته علي ما يبدو ليست في يده، لا يريد صحافة قومية مستقلة، ولا رؤساء تحرير يأتون باختيار زملائهم الصحفيين، فهرول إلي انشاء لجنة شكلها في غالبيتها الكاسحة من غير الصحفيين، ولم يلتفت إلي اعتراضات المجلس الأعلي للصحافة ومجلس نقابة الصحفيين علي أسلوب الاختيار وتشكيل اللجنة، وأخذ يسابق الزمن لانهاء مهمته المقدسة، غير عابئ بأنه مطعون في شرعيته وان البطلان هو مصيره المحتوم منذ صدور حكم المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية المواد التي انتخب علي أساسها.
لم أتقدم إلي لجنة مجلس الشوري بطلب ترشيح، ليس استعلاءً ولا تكبراً علي أحد، وإنما اقتناعاً بأن الاحجام في ظل المعايير الغريبة للاختيار صون للكرامة، وأن الامتناع علي حد ما قاله لي الأستاذ محمد حسنين هيكل يحفظ ما تبقي من شرف المهنة. وأشكر زميلي وصديقي الكاتب الصحفي محمد الهواري رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم، الذي أرسل رسالة إلي مجلس الشوري يطلب فيها استمراري في منصبي لأسباب رآها أشكره عليها، واعتبر -مجلس الشوري رسالته - ورسائل مماثلة لبعض الزملاء رؤساء مجالس إدارات الصحف - بمثابة ترشيحات لرؤساء تحرير الصحف اليومية الكبري. وفي كل الأحوال.. كان ظني ولم يزل ان الاختيارات موضوعة سلفا، وان المراد ليس تغيير الأشخاص وإنما تطويع المواقف، وكان يقيني ولم يزل ان خصخصة توجهات الصحف القومية لحساب جماعة الإخوان هو الفصل الأول في خطة تليين مؤسسات الدولة الصلبة واختراقها والهيمنة عليها. قلت انه لم تساورني رغم ثورة يناير أي أوهام عن أن حرية الصحافة سرمدية أو أن الصحافة لن تجابه بحروب تستهدف أسرها وكسر ارادتها، غير أنني أيضا لا يخامرني أي شك في أن زملائي في جريدة »الأخبار« الذين أدين لهم بكل الفضل فيما حققناه لن يقبلوا أي محاولات للردة إلي الوراء ولن يرضخوا لأي مساع لتدجين الصحافة القومية، ولست أظن أن أحدا من زملائي يرضي بأن تتحول الجريدة الأولي في مصر من صاحبة جلالة إلي ملك يمين لأي أحد. والتاريخ يحدثنا أنه ما خاضت الصحافة معركة يوما من أجل حريتها، إلا وخرجت منتصرة. الأيام دول، والسلطة دوارة بين حكومات وأشخاص، بعضها يطول عمره وبعضها يقصر، وبعضها لا يعدو أن يكون جملة اعتراضية في تاريخ الوطن!