ليس أسخف من تسفيه حرية الرأي والتعبير أو الاقتراب منها بسوء مهما كانت فجاجتها.. والعالم المتقدم ينظر لحرية الرأي والتعبير كحق اصيل من حقوق الانسان لم يعد في حاجة للاقتتال من أجلها.. وصيانة هذا الحق تحرص عليه وترعاه الأمم المهتمة بانسانية أبنائها وميلهم الطبيعي في النقد والاصلاح حتي لا تعود الديكتاتوريات التي لا تحب سماع سوي صوت واحد بدعوي توحيد الأمة.. والدعوة بتوحيد الأمة في غير محلها ان تم المناداة بها في مجال حرية الرأي والتعبير التي يقاس بها مدي تحضر الدول..! وقد ذهبت المحكمة الدستورية العليا في اكثر من حكم لها إلي تأكيد هذا الحق الطبيعي وفسرته بأنه يعني تمكين الفرد من عرض ارائه علي اختلافها وتلقينها ونشرها بكل الوسائل .. وقد نص الدستور علي "ضمان حرية التعبير عن الآراء وتمكين عرضها ونشرها سواء بالقول أو بالتصوير أو بالطباعة أو التدوين أو غير ذلك من وسائل التعبير.. وقد تقررت بوصفها الحرية الأصيلة التي لايتم الحوار المفتوح إلا في نطاقها وبها يكون الأفراد أحرارا لايتهيبون موقفا ولا يترددون وجلا ولا ينتصفون لغير الحق طريقا"..! وحرية التعبير مكفولة للفرد قانونا باعتبارها من الحريات الفكرية التي تتقدم وتزدهر بها المجتمعات ولذلك يتم الأبقاء والنص عليها بكل ما أوتينا من دساتير واعراف حتي ينصلح المعوج وتنمو الأمم ويتمتع الأفراد بصحة نفسية بعيدا عن الكبت.. لكن ثمة فارقا بين مفهوم حرية التعبير وعملية التفكير ذاتها..فالإنسان بداهة لايكف في أي لحظة منذ ميلاده وحتي مغادرته للحياة عن التفكير.. وحتي لو فكر الا يفكر فهو يفكر في نفس الوقت.. من هنا لايطول القانون بالتنظيم ما يدور داخل العقل من أفكار..! والتاريخ يدهشنا ان اقواما كثيرة كانت تماري في حرية الرأي والتعبير وكافحت الطبقات المستنيرة اجيالا واجيالا حتي اقتنع الاخرون بأن حرية الرأي والتعبير هي أولا واخيرا لصالح المجتمع والفرد.. وان الخير كل الخير هو ان تنطلق حرية الانسان في نشر أفكاره في جميع ما يعرض له من مواقف.. وان حرية التعبير ماهي الا وسيلة لتقدم المجتمع وترشيده باعتبارها ركيزة صرح الديمقراطية ولا تقوم الا بها وعليها ولايقوم عليها الا الحكم الرشيد.. ! وما قاله الفيلسوف العظيم سقراط في محاكمته حين طلب منه هجران ما يعلمه لتلاميذه -حتي لا يساق إلي شرب السم كعقوبة له -وكان يؤسس لحرية الرأي عند الشباب "انني لا أعرف طعم الموت.. أنني لا اخافه ولعله شيء جميل.. لكنني واثق أن هجراني رسالتي شيء قبيح..وأنني افضل ما يحتمل أن يكون جميلا علي ما أنا واثق من أنه قبيح.." وكان يعني بالقبح الابتعاد عن حرية الرأي التي يعلمها لشباب وطنه وسجن وقتل من أجلها..! وقد اسهبت المحكمة الدستورية في بيان ضرورة حرية الرأي والتعبير حيث قالت في احد احكامها " لايشترط لزاما ان يتفق الحق في التعبير مع االرأي العام السائد في المجتمع ذلك ان حرية التعبير التي تؤمنها المادة 47 من الدستور أبلغ ما تكون اثرا في مجال اتصالها بالشئون العامة وعرض اوضاعها تبيانا لنواحي التقصير فيها وتقويما لاعوجاجها.. وليس حق الفرد في التعبير عن الاراء التي يريد إعلانها معلقا علي صحتها ولا مرتبطا بتمشيها مع الاتجاه في بيئة بذاتها ولا بالفائدة العملية التي تنتجها..! وإنما أراد الدستور بضمان حرية التعبير أن تهيمن مفاهيمها علي مظاهر الحياة في أعماق منابتها بما يحول بين السلطة العامة وفرض وصايتها علي العقل العام..وحتي نستمع لكل الآراء ولا نخاف وننتصف للحق من خلال تباين الآراء والانصات الفاعل لها بما يحقق انسانية الانسان..!