د.عمرو عبدالسمىع التزمت - طوال مسيرتي المهنية- ما كنت أقوم بدراسته وتدريسه في كليات ومعاهد الإعلام والصحافة عن ضرورة احترام حدود المسئولية الاجتماعية، والأكواد الأخلاقية، وضمنها - بالقطع- عدم التعليق علي الأحكام القضائية، أو تلك المنظورة أمام الدرجات المختلفة لمنصات القضاة العالية والغالية. ولكن هناك ما شجعني - اليوم- علي الكتابة عن حالة المهندس أسامة الشيخ رئيس اتحاد الاذاعة والتليفزيون الأسبق، والذي قُضي عليه بالحبس المشدد لسنوات خمس بتهمة المبالغة في أسعار شراء عشرة مسلسلات وبرامج تليفزيونية (وهو ما تنظره محكمة النقض الموقرة هذه الأيام).. وأول العوامل التي تحفزني أن رهطا كبيرا من أصحاب الأقلام المحترمين كتبوا مبرئين ساحة المهندس أسامة كحالة فريدة ضمن مسجوني طرة (سادس من قُبض عليه بعد الثورة في قضية لها طبيعة سياسية بالدرجة الأولي كرئيس اتحاد رغم انه كان خارج البلاد حتي 82 يناير، وأنه غير مسئول عن الأداء السياسي للتليفزيون وقت الثورة، كما أنه حاول الاستقالة احتجاجا علي معالجات التليفزيون الإخبارية السياسية وألزمه جهاز سيادي بالبقاء وعدم هز أوضاع ليست في حاجة إلي مزيد اهتزاز)، وقد ساق أصحاب الأقلام المدافعون عن أسامة الشيخ- في هذا الإطار- حشدا من المبررات المنطقية والذرائع الفنية أعرف معظمها، وأثق في صحتها.. أما ثاني العوامل فهو أن ظروفي الشخصية أتاحت لي أن أتابع (من قريب) وقائع حملة شديدة الضراوة تعرض لها المهندس أسامة قبل يناير 1102 من عصبة أصحاب المصالح الفاسدين المفسدين في التليفزيون المصري، والذي بنوا دعائم تربحهم المادي علي استنزاف قدرات التليفزيون الحكومي، وقطاعات انتاجه الدرامي بالذات، لصالح أوعية تجارية، وخاصة تقع خارجه وساءهم - كثيرا - نهج أسامة الشيخ الذي عمد إلي التدقيق في اختيار النصوص التي ينتجها التليفزيون، والمسلسلات التي يشتريها أو يشارك في انتاجها، فضلا عن تطوير القنوات المتخصصة علي نحو أفضي إلي طفرة مذهلة في العائدات الإعلانية لذلك القطاع وصلت إلي مائة وخمسة وثلاثين مليون جنيه في السنة، بعدما كان مليونين من الجنيهات قبل أن يتولي أسامة رئاسته، وقد تحالفت كل القوي المضارة منه مع رئيس الاتحاد الذي خلفه (وفشل علي نحو ذريع) فكانت وقائع القضية المنسوبة تهمها إلي أسامة الشيخ. كنت - دائما- أشعر ان هناك من يتربصون بأسامة، لأنه قرر - ربما في حالة نادرة- ان يعمل للمهنة والبلد وليس لنفسه، ورأيته متفتحا علي المستوي السياسي يبذل مجهودا حقيقيا - رغم أن السياسة ليست مسئوليته- في الدفع بوجوه لم يك ظهورها في التليفزيون مألوفا أو مرحبا به، لا بل وكنت ألجأ إليه- أحيانا- وأنا أخوض معركة أسبوعية ضارية لحماية أكبر قدر من استقلالية برنامجي (حالة حوار) فيسدي لي نصائح أو ينيرني في بعض ما يدبر لي في الخفاء.. أما ثالث ما حفزني علي الكتابة في موضوع المهندس أسامة الشيخ فهو رسالة طويلة تسلمتها - هذا الاسبوع- من صديق مسافر تذكر أسامة الشيخ طويلا هذه الأيام وقد بدأ شهر رمضان دون ان نري ما يفيد استعادة التليفزيون، لازدهاره من جديد، رغم وجود قيادة محترمة تتولي الاعلام الآن، وتحاول معالجة ما أفسده الدهر، أو دمره اللواء إسماعيل عتمان واللواء طارق المهدي وأسامة هيكل، والدكتور سامي الشريف. تذكر ذلك الصديق - مثلي- نوع اختيارات المهندس أسامة الدرامية التي مثلت اختراقا للستار الحديدي الذي أرخي سدوله حول الاعلام المصري، ومنع تجاوز ما سُمي بالخطوط الحمر الأمنية واختراق ما سُمي بالسقوف السيادية، وهو ما كنا إذا نجحنا فيه - مرة - نعتبر أنفسنا من الفاتحين ونسعي إلي بعضنا البعض مهنئين.. وكتب لي الصديق - مطيلا عن المسلسلات التي تعاقد عليها أسامة الشيخ في رمضان قبل الماضي مستبقا حدث 52 يناير بشهور ستة، مثل مسلسل (أهل كايرو) لبلال فضل وخالد الصاوي، الذي تعرض لزواج السلطة والمال في أعلي طبقات المجتمع، ومسلسل (من ألف ليلة وليلة) لأشرف عبدالباقي الذي حكي قصة ثورة قام بها الشعب ضد حاكم افسده التجار والحاشية ، ومسلسل (قصة حب) لمدحت العدل واخراج شيرين عادل متعرضا لظاهرة الارهاب المقنع بالدين، وموغلا في التعرض لبعض الممارسات السلبية لجهاز أمن الدولة، ومسلسل (سقوط الخلافة) للكاتب يسري الجندي والذي حلل اسباب سقوط الانظمة الحاكمة، ومسلسل (ماما في القسم) الذي تناول دور الحكومة في تزوير الانتخابات البرلمانية لصالح قاضي تغاضي عن كل القيم الأخلاقية، والمهنية فصار وزيرا.. كان كل شغل أسامة - كما كتب لي صديقي المسافر- يتجاوز الحدود السياسية التقليدية للتليفزيون الحكومي، ويحاول العبور إلي مساحة حرية صاغها وصنعها بنفسه لانها لم تك موجودة قبله، ولم تعد متاحة بعده.. إذ كانت الحالة مرتبطة بالشخص الذي كان استثناء في طابور طويل من المسئولين دون المستوي الوزاري.. ويقول صديقي المسافر في رسالته الطويلة : »أو ليس أسامة الشيخ هو صاحب النجاحات الكبري في القطاع الاعلامي الخاص محليا وعربيا، وأول مؤسس لقناة فضائية مصرية خاصة (دريم)، والمصري الوحيد الذي رأس وأدار قناة فضائية عربية خاصة (الراي)، كما ساهم في إنشاء وإدارة أكبر شبكة قنوات عربية (ART)، وهو الذي أعاد نجوما كانوا ممنوعين (سياسيا وأمنيا) إلي كل شاشة أشرف عليها وأدارها، وفي مقدمتهم الاستاذ الكبير محمد حسنين هيكل حين نجح المهندس أسامة في اقناعه بالظهور في دريم، ثم اقنعه ببث محاضرته الشهيرة بالجامعة الأمريكية التي كانت أول ناقوس يدق محذرا من التوريث، وبعد الأستاذ هيكل كانت كوكبة من (المغضوب عليهم غير الضالين) مثل: إبراهيم عيسي، وجمال الغيطاني، وفهمي هويدي وهالة سرحان ومجدي مهنا، وأيمن نور، وأحمد فؤاد نجم.. وحين عاد أسامة الشيخ إلي التليفزيون الحكومي (بعد عشر سنوات من استقالته وعمله في الخارج أو القطاع الخاص)، فجعل المساحة التي اضطلع بادارتها والتخطيط لها - في وقت وجيز- تبدو أكبر بكثير وألمع بكثير من امكاناتها، أو رأسمالها. يكفي - في هذا- أن نشير إلي ان عدد الشرائح الاعلانية (بدون إعادة) في قنوات النيل المتخصصة بلغ عام 0102 تسعة آلاف ومائتي شريحة اعلانية مدتها سبع وثمانون ساعة، بينما بلغت عام 1102 (وقتما غاب أسامة في محبسه) أربعمائة وسبعون شريحة إعلانية مدتها أربع ساعات، كما بلغ عدد الشرائح الاعلانية (دون إعادة) خلال شهر رمضان علي قناتي النيل للدراما عام 0102 (وقت عمل أسامة الشيخ) خمسة آلاف وستمائة شريحة إعلانية مدتها واحدة وخمسون ساعة فيما بلغت مثيلتها عام 1102 (حين غاب أسامة) مائتين وثماني وعشرون شريحة إعلانية مدتها ساعتان فقط ومعظمها من الاعلانات الرخيصة الثمن الخاصة بالتبرعات للمستشفيات والجهات الخيرية. وأواصل مطالعة ما سطر صديقي المسافر عن الغائب أسامة الشيخ الذي يعلم كل بني آدم عمل في ماسبيرو (إلا الذين في قلوبهم مرض) أو غرض حجم الانجاز الهائل الذي حققه، وانحيازه الحقيقي لإرهاصات وبشارات الثورة إلي درجة خشينا فيها عليه كثيرا، وبخاصة حين دفعت بعض الأجهزة الأمنية ممثليها داخل مبني التليفزيون (وبعضهم من رؤساء قطاعات الانتاج الدرامي) للتحرش به والتهجم عليه، والتسريب المغرض ضده في الصحف، ووز بعض الموظفين (ومنهم مخرجون) في تلك القطاعات، للتقول عليه، وإثارة أجواء لا تطاق حوله لعرقلة عمله المتواصل من أجل النهوض بالجهاز، وبالمناسبة فقد كان هؤلاء هم من استعان بهم مسئول خلف المهندس أسامة ليشكل لجنة تقيم أسامة الشيخ في موضوع القضية المحبوس بسببها (وهو ما عرضته رسالة صديقي تفصيلا واحاول ايجازه في هذه السطور).. يقول صديقي المسافر: »أسامة الشيخ- الآن- في محبسه المظلم البارد يعاقب علي جرم لم يرتكبه«.. وهذا ما سوف أعرض له في الأسبوع المقبل.