علي الرغم من ان رحيل صديقي الكبير محمد البساطي كان متوقعا بين لحظة واخري منذ مايقرب من ثلاثة شهور، إلا أن نبأ وفاته مساء السبت الماضي كان صاعقا، فالبساطي حالة انسانية كاملة .. كاتبا وموقفا وسيرة حياة عطرة حقا ومستقيمة في الوقت نفسه . لي الحق أن أفخر وأزهو بالبساطي، فهو علي سبيل المثال نشر حتي رحيله عشر مجموعات قصصية وخمس عشرة رواية بين عامي 1976 و2011، أي خمسة وعشرين كتابا، ومع هذا الانتاج المتواصل ظل موقفه من وزارة الثقافة هو السبب الاساسي في عدم نيله جائزة الدولة التقديرية التي يستحقها منذ عشرين عاما علي الاقل، نالها البساطي بعد الثورة وقبل رحيله بأيام . لم نعرف عن البساطي، نحن أصدقاؤه ومحبوه، أي رطانة يسارية من قريب او بعيد، ولم ينخرط في السياسة بشكل مباشر مثل أغلب ابناء جيله الذين دخلوا السجون، ولم يشارك بجدية في المظاهرات الاحتجاجية قبل الثورة، ومع ذلك فقد كان موقفه التلقائي " الفلاحي " من وزارة ثقافة علي رأسها فاروق حسني أو أي واحد مثل فاروق حسني حاسما وواضحا ومستقيما . والحقيقة ان موقفه هذا قد امتد لما بعد الثورة، فقد كان السرطان يلتهمه بوحشية، وخضع لعلاج مكثف يعلم الجميع كم يكلف رجلا شريفا مثل البساطي لايملك سوي معاشه، وعندما علم وزير الثقافة السابق شاكر عبد الحميد اتصل به ليبلغه ان علاجه سيكون علي نفقة الدولة، لكن البساطي رفض بحسم، وشكر الوزير قائلا ان اسرته قادرة علي التكفل بعلاجه ولم يقبل مليما من أحد . صنع البساطي تاريخه النقي بكل سهولة ويسر، لأنه اعتبر ان الكتابة ليست وجاهة، بل كدح متواصل لايعرف الكلل، اعتبرها مسئولية وموقفا نابعا من ضميره الشخصي. عند البساطي تحديدا الكتابة ليست موردا ماليا او رزقا هابطا من السماء، وليست ادارة للعلاقات العامة تدفعه للشهرة والنفوذ والمجد . لمن لايعرف، فإن البساطي بلا تردد ولامجاملة او هلفطة عاطفية بسبب رحيله، كان واحدا من كبار كتاب الانسانية، وعبر انتاج بالغ الوفرة منذ مجموعته القصصية الاولي التي لايبلوها الزمن " الكبار والصغار" عام 1967، وحتي مجموعته الاخيرة " فراشات صغيرة " الصادرة في فبراير الماضي، وعبر خمس عشرة رواية كان آخرها " وسريرهما أخضر " الصادرة في العام الماضي، حفر ملامحه بدأب واصرار متواصلين . يكاد البساطي ينفرد بين أبناء جيله بأن كلا الشكلين - القصة القصيرة والرواية - له الاهمية نفسها، وهو يكتب الرواية بوصفه كاتبا للقصة القصيرة، فالإحكام المقتدر، والتطبيق الامثل لنظرية جبل الثلج الذي لاتبدو إلا قمته فقط ظاهرة للعيان، والاكتناز والتكثيف والاشارات الحريصة علي عدم التورط العاطفي.. كل هذا من اسرار القصة القصيرة التي كتب بها البساطي أعماله الروائية المتتالية . كتب البساطي عن العالم المهمش للخائفين من الفضيحة، للمقموعين والفقراء الذين لايملكون حتي عواطفهم لكنه - وتلك احدي مآثره - لايتورط معهم او يذرف الدمع عليهم، إنه يكتبهم ولايكتب عنهم من الخارج. كتب عن الفلاحين في العزب والكفور، في " مشوار قصير " وهي من اوائل قصصه، يتوجه اثنان من الرجال الغلاظ الي بيت فلاح ويصطحبانه معهم بعنف وحسم في "مشوار قصير " لانعرف الي اين . كتب عن النساء الوحيدات في المدن الصغيرة، عن المساجين واسوار السجون، وفي قصته "حديث من الطابق الثالث" مثلا، وهي من قصص الستينات أيضا، يزعق رجل مسجون في الطابق الثالث بوصاياه لزوجته عبر السور، ومن اهمها سؤاله عن تقليم النخلتين اللتين يملكهما وضرورة تقليمهما بسرعة! كتب عن الانهار وصيادي البحيرة والمحابيس والايام الصعبة .القاهرة ايضا كتب عنهاعددا من اعذب رواياته، وفي روايته " دق الطبول " كتب عن الفقراء العاملين في بلد خليجي علي نحو ساحر .. باختصار اردت ان اوضح الي اي مدي اتسع عالم الكاتب المترامي . وعلي الرغم من انه اعتزل اصدقاءه قبل رحيله، وكان من النادر ان يرد علي الهاتف، وبدا وكأنه يعيش مرحلة اكتئاب مرتبطة بالمرض، الا أن الامر لم يكن كذلك، بل كان البساطي يقترب من تخوم اخري، ولامس ما لاندركه نحن، ففي الشهور الاخيرة تحديدا كتب واحدة من اجمل حكايات الهوي والعشق المستحيل وهي "وسريرنا اخضر "، كما كتب عددا من الاقاصيص التي تقترب من الاشراق الصوفي، حيث رقَت الدنيا وشفَت ليصل الي الذري في احداها وهي بعنوان "ميت "، في كلمات قليلة جدا يقرر الميت ان يقوم ويتجول قليلا، بل وذهب الي بيته وشاهد امرأته، إلا أنه اكتشف ان الامر لايستحق فعاد الي قبره . قدم لنا البساطي الكثير، ليس رواياته وقصصه فقط، بل أيضا سيرة حياة عطرة بلا اي خدوش.. وداعا صديقي النبيل..