التجربة كلها.. جديدة علينا.. وعلي ثقافتنا.. وعلي تراثنا.. وعلي ما تعلمناه خلال أجيال طويلة.. وتتلخص في انتقال النظام السياسي.. من سلطة عسكرية.. لسلطة مدنية.. وبالانتخابات وليس علي ظهر دبابة.. في الوقت الذي كانت فيه الدبابة.. وخروج الضباط من ثكناتهم ليلا.. هي العلامة المميزة لتغيير النظام السياسي.. ووصول دفعة جديدة من الضباط لسدة الحكم. نحن الآن أمام معجزة! كانت الثقافة السائدة لنحو 06 سنة.. بلا انقطاع.. لا نتوقع أي تغيير لنظام الحكم إلا إذا جاء علي ظهر دبابة.. في انقلاب عسكري يدبر في الخفاء وعلي ايدي تنظيم سري.. يحكم قبضته علي الأسلحة التي تمكنه من الحركة.. واعتقال قيادات الدولة والسيطرة علي مبني الإذاعة والتليفزيون.. لاذاعة الأناشيد الوطنية والبيانات.. ودعوة المواطنين للهدوء.. ومعها سلسلة طويلة من الآمال المعلقة علي انتظام الحياة.. وتوفير الرخاء واصلاح التعليم ورفع الرواتب.. وتحرير فلسطين من المغتصبين إلخ. كانت هذه الصورة النمطية.. هي الصورة الذهنية السائدة لاحتمالات التغيير التي لم يفلت منها مصري واحد.. ابتداء من كبار قادة ثورة يوليو 2591 المجيدة.. وحتي عامة البسطاء الذين لا يتصورون حدوث تغيير.. إلا إذا جاء علي ظهر دبابة.. وكانت الاختبارات اليومية لولاء ضباط القوات المسلحة لثورة يوليو المجيدة.. لا تتوقف وسط سباق محموم من جانب قلة من ضعاف النفوس للإبلاغ عن زملاء لهم.. الأمر الذي امتد لمختلف فروع الحياة.. وإلي الصحافة علي وجه التحديد للوقيعة بين الزعيم القائد جمال عبدالناصر.. ونجوم الصحافة في هذا الزمان.. تقارير مذهلة.. كان يحيلها جمال عبدالناصر بعد ان يكتب فوقها بخط يده »سامي وصلاح دسوقي«! كانت فكرة التغيير علي ظهر الدبابة هي الفكرة المسيطرة علي حكامنا.. الذين أودع أحدهم ملايين الدولارات.. لدي واحد من الاصدقاء محل ثقته من أجل ما اسماه »الدفاع عن الثورة«! وكان الاعتقاد السائد.. يري ان من يأتي جانب الجيش يستطيع النوم في قصره الجمهوري وهو مرتاح البال. لم يكن يدور بخلد أحد.. ان يأتي التغيير إلا علي ظهر الدبابة في انقلاب عسكري.. يطيح بالنظام القديم ويرسخ القواعد لنظام جديد.. وانه إذا استطاع الزعيم الراقد علي سرير السلطة عقد اتفاقات سرية مع أجهزة المخابرات الأجنبية لتأمين سلامته وتزويده بالمعلومات المتعلقة بالأحوال في قواته المسلحة فان الاحتمالات الانقلابية تصبح في حكم المستحيلة. هكذا تصور حكامنا.. وفي مقدمتهم حسني مبارك الذي وضع في بطنه بطيخة صيفي بعد ان نجح في توطيد علاقاته مع الموساد ومع المخابرات الأمريكية في إطار مشروعه الخاص بالتوريث.. ونقل السلطة لنجله المدلل جمال مبارك.. وادرك حسني مبارك بحكم ضعف ادراكه انه إذا وضع الشرطة والقوات المسلحة وجميع الأجهزة الأمنية في جيبه.. فقد أمن السلطة له ولأولاده واحفاده.. علي نحو ما كان يجري في العالم العربي.. وفي ليبيا وسوريا واليمن علي وجه التحديد. لم يكن حسني مبارك يلقي أي اهتمام بالانتقادات الموجهة لنظام حكمه.. ولا بالصرخات الصادرة من حناجر 71 مليون مواطن يعيشون في العشوائيات.. وكان يردد جملته الشهيرة »خليهم يتسلوا«. بيد أن إرادة الله سبحانه وتعالي كانت الأقوي.. واراد الله.. ان يسقط النظام.. وان تحقق الحالة الثورية التي اندلعت في 52 يناير 1102 أهم أهدافها.. وهو اسقاط النظام وسقط النظام بالفعل. لم يسقط علي ظهر دبابة.. كما كان مبارك يتصور.. وإنما سقط بعد انتخابات شارك الشعب في صنعها لأول مرة في تاريخنا المعاصر. لم تتكرر تجربة 2591.. كما توقع البعض.. ولم تخرج قواتنا المسلحة الباسلة للاستيلاء علي السلطة.. وإنما خرجت لحماية الحالة الثورية.. وتأمين المواطنين وحماية رموز الدولة ومرافقها الحيوية. انها حالة فريدة فعلا.. وليس لها مثيل.. وسوف يقف التاريخ طويلا امام مشهد نقل السلطة من المجلس العسكري إلي رئيس الجمهورية المنتخب.. بعد ان أدي اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية العليا.. كان مشهد الاستعراض العسكري لنقل السلطة لحاكم مدني.. وجلوس رئيس الجمهورية المنتخب بملابسه المدنية.. وسط كبار قادة القوات المسلحة الشرفاء.. مشهد يدعو لوقفة طويلة من التأمل.. ويدعو للفخر بين أولادنا الذين يتلقون هذا الدرس في حصص التاريخ والتربية الوطنية.. وكانت الكلمة التي ارتجلها الرئيس المدني المنتخب وسط حشود القوات المسلحة.. كلمة حق.. وكلمة صدق.. عندما قال لرجال القوات المسلحة.. انتم شرف لهذا البلد.. وكانت كلمة المشير طنطاوي في اللحظة نفسها.. تنم عن وطنية جارفة.. عندما قال: سنقف مع الرئيس الجديد.. وسنظل حصن الشعب وملاذه! اكتب هذه السطور.. في لحظة فارقة في تاريخ الوطن العظيم الذي ننتمي إليه.. يحدوني الأمل في البحث عن الجوانب المضيئة في الأحداث التاريخية التي شهدناها في الأسابيع الأخيرة.. وإلا نتوقف طويلا أمام القضايا الثانوية التي يدور حولها جدل عقيم.. يمزق الصفوف ويثير الشكوك في النوايا.. التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالي. اننا نمر بمرحلة فارقة في تاريخنا الحديث.. ولدينا قائمة طويلة من الأولويات التي تقتضي تضافر الجهود وشحذ الهمم.. والبحث عن مصلحة الوطن.. أولا.. وأخيرا. وعندما نخوض معارك البناء.. وإزالة آثار ثقافة النفاق وعبادة الحاكم.. فنحن نخوضها وخلفنا تاريخ طويل من التجارب السلبية التي اضاعت علي شعبنا العظيم.. ممارسة دوره الحقيقي.. في اللحاق بالأمم الراقية التي سبقتنا في غفلة من الزمن.. وجعلتنا نعيش حالات من التصحر في جميع مجالات الحياة.. ابتداء من نجوم الابداع والفن والأدب.. وحتي علي مستوي اللغة العربية التي نستخدمها في حياتنا اليومية.. والتي تراجعت في السنوات الأخيرة.. بشكل مذهل.. نحن الآن أمام فرصة.. وأمام قيادة لم تصل لموقعها علي ظهر دبابة.. ولا بانقلاب عسكري ينفق علي التسلح واهدار القوي البشرية.. أكثر مما ينفق علي مشروعات الصرف الصحي.. ومشروعات استصلاح الأراضي وفتح آفاق الأمل لمستقبل أفضل. وبقيت المسئولية كلها ملقاة علي الرئيس الجديد وعلينا جميعا.. وعليه ان يدرك انه لن يحقق شعبية بالخطابات الصارخة.. ولا بالشعارات الرنانة.. وإنما بقدر ما يحققه في مجالات إعادة البناء والتنمية.. وإزالة الفوارق المذهلة بين الطبقات.. وتحقيق العدالة الاجتماعية.. لقد كانت تجربتنا في نقل السلطة من القوات المسلحة.. لنظام مدني.. تجربة فريدة في عالمنا العربي وفي دول العالم الثالث.. ولم تعد الحالة الثورية التي نمر بها تسمح بديكتاتورية جديدة تحل محل الديكتاتورية القديمة وتسير علي نهجها.. ويبقي المعيار الوحيد للبقاء فوق كرسي السلطة.. هو احساس كل مواطن بأنه يحقق في كل يوم معجزة اقتصادية جديدة.. وان الرئيس الجديد لا يحيط نفسه بحملة الدفوف والمزاهر.. الذين يزينون له الجرائم والفساد.. ويقللون من وقع ما يرتكبه من حماقات. تعالوا نضع سواعدنا مع الرئيس الجديد.. لنكمل المعجزة!