بداية وقبل المضي في التحليل، يجب التأكيد علي ثوابت لا تقبل المساومة، أولها عدم التشكيك في نبل ومشاعر المصريين ممن خرجوا تعبيراً عن رفضهم لمظاهر فساد وتراجع وعجز أصاب دولتهم المصرية فانتفضوا ضده، وثاروا ضد فساد وبطش آلة قمعية وصلت في جماحها إلي حد توريث المصريين. ومن ثم لا يجب علي القارئ ان يسئ الفهم بان ما ستأتي به السطور القادمة هو انتقاد للثورة المصرية الشريفة اوانتفاضتنا ضد الفساد بأي شكل، بل هي محاولة صادقة للفصل بين نبل وجلال تضحيات المصريين وبين سوء النوايا الخارجية إزاء الدولة المصرية المركزية، الدولة غير المسيسة بأجهزتها وخاصة القوات المسلحة. فتطورات الاوضاع السياسية في المنطقة العربية، تفرض علي كل مهتم بالشئون الاستراتيجية، التفكير في ما آلت إليه أوضاع ميزان القوي العسكرية العربي الاسرائيلي، في ضوء ما ألم بالعديد من الجيوش العربية التي أصابها الشتات والوهن في أعقاب ما سمي "بالربيع العربي". الاتفاق حول تسمية الصراع في الوطن العربي: منذ عام 1948، شكلت قضية احتلال فلسطين قضية العرب الاولي، إذ دارت محاور السياسة الخارجية للدول العربية في فلك قضية الصراع العربي الإسرائيلي باعتباره قضية وجود مصيري تشكل تحدي الأمة الأول، في ظل مأساة إنسانية تمثلت في اقتلاع شعب من أرضه ثم مفاوضته علي ما بقي منها مع الاستمرار في ابتلاع المزيد من اراضيه واراضي الدول العربية، ودون الدخول في سرد لوقائع تاريخية، يمكن القول إلي أن الفترة الممتدة من 1948 إلي 2003 تاريخ الغزو الامريكي للعراق، لم يختلف العرب فيما بينهم علي اولوية التعامل مع القضية الفلسطينية، قدر اختلافهم علي السبيل الأمثل لتناولها، ليصلوا جميعاً في 2002 إلي رؤية مشتركة تجسدت في المبادرة العربية الشاملة للسلام التي طرحها الملك عبد الله في القمة العربية. عقب سقوط العراق، وإعادة رسمه من جديد علي أساس طائفي غير قومي أو وطني، بحجة دعم الفيدرالية واللامركزية، وارتكاب الولاياتالمتحدة لأخطاء قد تصل لدرجة الجرم في حق دولة وشعب العراق، بما انتهي إلي تفكيكها للدولة العراقية المركزية وتغاضيها عن تغلغل إيران في العراق لدرجة الابتلاع، برزت علي الواقع العربي معضلة شكلت تهديداً اساسها تنامي النفوذ الإيراني ومحاولات الأخيرة لتنصيب نفسها كمرجعية اولي للشيعة في المنطقة في محاولة لضرب مرجعية النجف في العراق لصالح مرجعية قم الإيرانية، تنامت المخاوف العربية خاصة من جانب دول الخليج مما يسمي المد الشيعي الإيراني، لتزاحم القضية الفلسطينية، وتصبح الهاجس الأول لدول الخليج العربي بالدرجة الأولي، وليتراجع عمليا الاهتمام المنطقي بالقضية الفلسطينية تدريجيا، لتتحول مع الوقت إلي بند معتاد في القمم يفتقد لنية آليات تفعيل حقيقية، في ظل احتكار وسيط غير محايد لها وتسليم عربي اقرب منه إلي الاستسلام لقول اريد به باطل ان 99٪ من اوراق اللعبة في يد ذلك الوسيط غير المحايد. في ظل ذلك المناخ، شكلت إيران في محاولات رسم الواقع العربي الجديد بؤرة التهديد الجديد في نظر اطراف مختلفة، فمن ناحية الغرب تعظيم التهديد الإيراني باعتباره القضية الرئيسية الاولي في الوطن العربي يجعل منها عدواً مشتركاً لكل من العرب وإسرائيل، وبالتالي من شأنه المساهمة في إيجاد محور للعمل المشترك مع الدولة العبرية، وتأجيل استحقاقات القضية الفلسطينية بما يجنب الانظمة الغربية الحرج السياسي مع حليفتها الأولي في المنطقة. من جانب آخر، تستفيد إيران من الوضع الجديد في تأمين نظام حكم الملالي، فالنظام يسعي لتضخيم ما يتعرض له من اخطار بما يوحي بوجود مؤامرات غربية تستهدف نظام الحكم بما يزيد من الالتفاف الشعبي حول دعائمه، مع ممارسة فعلية في التدخل في الشئون الداخلية للدول العربية والسعي لتعظيم دورها الاقليمي من خلال ادوات اتقنتها سواء في سوريا ام لبنان وقطاع غزة. وهو ما يخلص بنا إلي أن عملية استبدال الصراع العربي الاسرائيلي التاريخي بصراع جديد هو الصراع السني الشيعي في المنطقة، تلقي قبولاً لدي اطراف عديدة. مستقبل الدول المركزية والعمق الاستراتيجي العربي: من المعلوم ان حرب اكتوبر عام 1973 شهدت لأول مرة عملاً عسكرياً هجومياً عربياً مخططاً ومنسقاً وفقاً لأسس العلم الحديث، كان من ابرز ما فيه عظم تأثير مكامن القوة العربية اذا ما اجيد توزيع الادوار، فنجد العالم العربي بما امتلكه من عناصر القوة الشاملة استطاع تحقيق المفاجأة الاستراتيجية وانتصارات لعب فيه التنسيق والعمل العسكري والمدني العربي الجماعي دوراً فاعلاً. اولي الدروس المستفادة هي الميزة الاستراتيجية لدول الطوق والمواجهة (مصر - سوريا - الأردن ) ممثلة في العمق الاستراتيجي، فمصر في حالتنا، امتلكت محوراً استراتيجياً غربيا استوعب جزءاً من تشكيلاته المقاتلة (البحرية والجوية)، فضلاً عن نظام صديق شارك في المعركة عام 1973 سواء بتمويل وتيسير صفقة طائرات الميراج الفرنسية التي كانت احدي مفاجآت الحرب. امتلكت مصر ميزة في محور استراتيجي ثان هوالمحور الجنوبي ممثلاً في دولة السودان الموحدة (انفصلت جنوب السودان في 2011)، بالمثل كما حدث مع ليبيا استغلت مصر هذا العمق في نقل تشكيلات مقاتلة من بينها القاذفات الاستراتيجية الثقيلة والمعاهد العسكرية، بما يحد من تأثير اليد الطولي لإسرائيل ويحيدها. مما أعطي مصر القدرة علي امتصاص الاعمال العدائية الجوية، وتحييد التفوق الجوي الاسرائيلي من خلال استغلال تلك الميزة. يلاحظ ان المجهود الرئيسي للدعم العسكري العربي (القوات المسلحة العربية التي شاركت في معارك اكتوبر علي الجبهتين المصرية والسورية)، جاءت غالبيتها العظمي من النظم المركزية القومية، في حين جاء المد المالي الرئيسي من الملكيات العربية، وهذا ليس انتقاصاً لأيهما بل هو توزيع حكيم للأدوار ومواطن القوة، في هذا الصدد من الهام ابراز الدور الذي لعبته الفرقة المدرعة العراقية في دعم الجبهة السورية ووقف التغلغل الإسرائيلي وحماية دمشق، كذلك السرب المقاتل العراقي علي الجبهة المصرية، فضلا عن اللواء المدرع الجزائري واحتل نسقاً دفاعياً علي الجبهة المصرية وكان مقرراً له الاشتراك في خطة تصفية الثغرة التي عرفت باسم الخطة شامل. من جانب آخر لعب وقف تصدير النفط العربي للدول الغربية عنصراً داعماً بالغ الأهمية علي المستوي الاستراتيجي، وصلت معه الدول الغربية إلي خلاصة مفادها ضرورة تأمين منابع النفط مباشرة بحيث لا يتكرر ذلك الوقف ثانية أبداً. لعبت العلاقات المصرية اليمنية الاستراتيجية عام 73 الدور الرئيسي في اتاحة مجال العمل الاستراتيجي للقوات البحرية المصرية لحصار ميناء إيلات ليس من مضيق تيران هذه المرة، ولكن من باب المندب، لتقوم البحرية المصرية بواسطة لواء المدمرات والغواصات بخنق اسرائيل بحرياً، بما جعل من طلب رفع الحصار البحري عن ميناء إيلات هو اول مطلب مقابل مساومات جولدا مائير في مفاوضات الكيلومتر 101، التي تلت وقف إطلاق النار. تنامي صعود التيارات الإسلامية عقب الثورات العربية: ليس من قبيل المصادفة ان تسفر تغيرات الانظمة القومية العربية عن صعود التيارات الدينية، فتلك الانظمة اجرمت في حق شعوبها بالقضاء علي المعارضة المدنية وترك الساحة خالية امام التيارات المتأسلمة لملء الفراغ في صفقة غير مكتوبة استفاد منها الطرفان، . الانعكاسات علي مصر: تواجه مصر لأول موقفا بالغ الخطورة هو وجود تهديدات مباشرة علي ثلاثة محاور مباشرة، علي النحو التالي: المحور الشرقي: حالة انفلات امني في سيناء، بؤر لعناصر جهادية، تهريب سلاح وبشر مع صعوبة احكام القبضة الامنية علي سيناء في ظل ما تفرضه قيود اتفاقية السلام من تحديد لأحجام التواجد العسكري ونوعيته بما لا يزيد علي 15٪-20٪ من الاعداد المطلوبة لتأمين سيناء وفقاً لأساس علمي، ووجود إمارة اسلامية، في قطاع غزة، تسيطر عليها حماس وهي حركة عسكرية جهادية في النهاية تؤمن بفكر الاخوان المسلمين. كذلك حكومة يمينية إسرائيلية، لا ولن تتورع عن الدخول في مغامرة عسكرية محدودة علي الحدود المصرية لإيجاد منطقة امنية عازلة، او ارتكاب حماقة مع قطاع غزة يترتب عليها اجتياح انساني فلسطيني للمنطقة من رفح إلي العريش. المحور الغربي: الحدود الغربية تعد من اخطر ما يتهدد الامن القومي المصري، وسيصبح علي مصر إعادة توزيع قواتها وتدريبها مع مهام جديدة، للسيطرة علي 1000 كم من الحدود التي تجمع مصر مع دولة منهارة، تسيطر عليها حركات اسلامية مدعومة من بعض دول الخليج العربي الصغيرة، وقد تستغل كشوكة في الجانب المصري، بالاضافة إلي تجارة السلاح الرائجة من فيض السلاح الناتج عن احداث ليبيا سواء ما ورثته جماعات الفوضي من مخزون الجيش الليبي او تسليح الناتو لها بكميات رهيبة، تهدد الدولة المصرية في حالة وصولها لأيدي ميليشيات اوالتنظيمات السرية لجماعات الاسلام السياسي، بما سيعطيها لأول مرة إمكانية الدخول في صدام مسلح كما ونوعاً مع قوي الجيش النظامية بما يشبه حرب الاستنزاف، ومن ثم يتشتت المجهود الرئيسي للجيش المصري، المحور الجنوبي: هناك تراث تقليدي من تهريب السلاح عبر الحدود المصرية السودانية، فضلاً عن عدم استقرار اقليم دارفور بما يفتح الباب امام الانفصال في مرحلة من المراحل بما يستحضر نقطة تماس مباشر وجديدة من عدم الاستقرار. الخاتمة: مما سبق يتضح ان مصر بحاجة إلي صياغة نظرية جديدة للأمن القومي تستوعب متغيرات ناتجة عن سقوط نظم سياسية وان كانت قمعية، وتتواكب مع تحول الاتجاهات الاستراتيجية الصديقة لاتجاهات تهديد نتيجة سقوط انظمة قمعية لكنها كانت صديقة علي المستوي الاستراتيجي، شكلت عمقاً استراتيجيا شاملاً لمصر في اوقات الحروب، واعطتنا الفرصة علي المناورة والحشد تحييد الأسلحة بعيدة المدي الاسرائيلية. تفرض تلك التغيرات علي مصر تطوير رؤية عسكرية كما ونوعا للتعامل مع خطر التهديد المباشر، كما ينبغي التفكير في إنشاء الحرس الوطني المصري، ليصبح قوة احتياط داعمة تحد من العبء الملقي علي عاتق القوات النظامية الرئيسية.