جمال الشرقاوى التناقض بين المقدمة القوية التي مهد بها المستشار أحمد رفعت للحكم.. والحكم وحيثياته، اكبر دليل علي الحالة العجيبة التي تعيشها بلادنا في هذه الفترة الانتقالية. في المقدمة عبرت المحكمة عما تيقن به ضميرها، من أن نظام حسني مبارك ورجاله كان كابوسا استمر ثلاثين عاما، نشر فيه الظلام علي مصر فحط من قدرها، وأحل الفقر والبؤس بالشعب. في إدانة شاملة لذلك النظام، وتحميل رئيسه المسئولية الكاملة عن كل ذلك. بينما أشادت بثورة يناير التي أشرقت علي مصر يوم الثلاثاء 52 يناير.. وواجهها النظام بالبطش. ثم نطق المستشار أحمد رفعت بالحكم المؤبد علي مبارك والعادلي باعتبارهما المسئولين الرئيسيين عن جريمة قتل شهداء الثورة. لكن المحكمة برأت مساعدي العادلي الستة لعدم توافر أدلة علي إصدارهم الأوامر بقتل المتظاهرين السلميين. كما برأت حسني مبارك ونجليه جمال وعلاء وحسين سالم من جريمة استغلال النفوذ، لانقضاء الدعوي، بمضي السنوات التي يقضي القانون بها لإدانة واقعة استغلال النفوذ. المحكمة التزمت بالقانون الجنائي وقانون الاجراءات. ولا أعتقد أن الذين هتفوا في القاعة معترضين، كانوا منصفين وعلي حق، فنحن جميعا نعلم أن القاضي يحكم بما أمامه من أوراق، وأدلة قاطعة. مشكلتنا الحقيقية مع الاحكام الخاصة بأحداث قتل المتظاهرين السلميين، هي في القوانين، وليست في المحاكم والقضاة. مشكلتنا أننا نردد بلا ملل أننا نلتزم بالقانون، ونؤمن بعدالة القضاء. لكننا لم نتوقف طوال 51 شهرا لنسأل أنفسنا: أي قانون ذلك الذي نلزم أنفسنا به؟.. ورغم أننا تلقينا صفعات متتالية، بصدور أحكام البراءة لضباط وامناء شرطة في كل قضايا قتل المتظاهرين.. ورغم أن بعض المحامين، وأخص منهم المحامي الحقوقي ناصر أمين الذي نبه مبكرا جدا الي هذه النتيجة بما يصل الي توقع براءة مبارك نفسه. ذلك، لأننا استسلمنا للقوانين القائمة كما هي. ولهينا بالأحكام العادلة التي يصدرها قضاتنا في القضايا التي أطراف النزاع فيها أفراد. تتأكد المحكمة أن فلانا علي وجه اليقين، قتل فلانا علي وجه التحديد، وأنها تأكدت ان القتل تم بهذه الطريقة، وذلك السلاح. وما الي ذلك.. ويسري ذلك علي الجرائم التي تقع بين عائلات أو مجموعات محدودة. لكن قانوننا الجنائي لم يهيأ للتعامل مع ثورة أو مظاهرات تضم ملايين أو مئات الألوف أو حتي الآلاف.. تواجههم قوات أمن من آلاف أو عشرات الجنود والضباط. حيث لا يمكن تحديد مَن مِن الضباط أو الجنود هو الذي قتل هذا المتظاهر أو ذاك. قد يكون المنطقي في هذه الحالة ان يكون تحديد القاتل الفعلي، للقتيل الحقيقي.. صعب أو مستحيلا. بسبب الصخب والكر والفر.. والتخفي الماهر الذي يجيده رجال الأمن. وهكذا وجدنا لدينا قتلي بلا قتلة. قتلي تجاوزوا الألف شهيد، وحوالي سبعة آلاف مصاب، المئات منهم فقدوا عيونهم، أو أصيبوا بالشلل.. وأن القتل والاصابات تم بالرصاص الحي والخرطوش.. وكل ذلك معترف به من الطب الشرعي والنيابة العامة. ومع ذلك لم تجد المحاكم -بالقوانين الحالية - ما تدين به أحدا. وبالنسبة للمساعدين الستة، لم تجد المحكمة الادلة القاطعة لإدانتهم.. فبرأتهم، برغم علم الجميع، المحكمة، وقبلها النيابة، أن أجهزة البحث الجنائي بالداخلية وكذلك أمن الدولة، والمخابرات، لم تعاون في تقديم الأدلة، أو علي الأصح تلاعبت وعبثت بأي أدلة. ما نستخلصه من ذلك أن قوانين العقوبات والاجراءات الجنائية تحتاج الي مراجعة مدققة، تحدد مسئولية هذه الأجهزة، وكيفية محاسبتها، وليس مجرد الشكو منها، حتي لا يفلت القاتل، بتواطؤ أجهزة الدولة. وايضا كيف يتعامل القانون مع ثورة أو مظاهرات سلمية أو حتي غير سلمية، والأسلحة التي تستخدم، وكيف تستخدم. وفي حالة مخالفة ذلك من بالضبط المسئول. وكذلك حكاية سقوط الدعوي بالفساد واستغلال النفوذ بمضي عشر سنوات. لأن العالم كله لا يأخذ بالتقادم. وقد رأيت كيف حوكم شيراك بعد ترك منصبه بزمان، لقبوله هدية اعتبرت رشوة حتي لا تبقي نصوص تحمي الفساد. والأهم من كل ذلك تخليص القوانين من فلسفة العداء للجماهير. فنظرة سريعة لأحداث ماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء والعباسية ستجدون انه برغم من سقوط قتلي وجرحي »فالجماهير دائما هي المتهمة بتهمة ثابته: »تكدير الأمن العام، والاعتداء علي الممتلكات العامة والخاصة«. وفي كل منها سيق عشرات المواطنين الذين قدمتهم النيابة للمحاكمة.. بناء علي هذه القوانين التي يختلط فيها العدل بالظلم. العدل في مواجهة أفراد أجهزة الأمن.. والظلم للجماهير..!