سمىر غرىب كنت في زيارة الأسبوع الماضي للصديق الكبير الأستاذ الدكتور محمود المناوي . هو ممن تجتمع فيهم صفات " العلامة " في هذا الزمن الذي ندر فيه أهل هذه الصفات . أهداني في تلك الزيارة كتابا لأحد أجداده، وهو علامة ابن علامة آخر اسمه عبد الرءوف تاج العارفين علي نور الدين المناوي . من مناقب الدكتور محمود المناوي أنه اشتغل علي أصل عائلته وحفظه. واهتم بتراث جده عبد الرءوف وجمع مخطوطاته من كل مكان عرف بوجودها فيه . منها مخطوطتي هذا الكتاب الذي أهدانيه . فمخطوطة منهما صورها من مكتبة الملك فيصل في السعودية، ومخطوطة أخري أرسل بصورتها المرحوم الأستاذ الدكتور نصر حامد أبو زيد من مكتبة جامعة ليدن بهولندا حيث كان يعمل . أما الكتاب الهدية فاسمه " الجواهر المضية في بيان الآداب السلطانية ". كتبه مؤلفه سنة 1026 هجرية . درسه وحققه مجيدا الدكتور أحمد محمد سالم من كلية الآداب بجامعة طنطا، بطلب من الأستاذة الدكتورة يمني الخولي وبمساعدة من زميلته الدكتورة زينب أبو الفضل، وصدر عن هيئة الكتاب . قرأته فوجدته مناسبا تماما لما نحن فيه من أحداث الانتخابات الرئاسية التي تجري حاليا في مصر للمرة الأولي، ومفيدا لكل من يتطلع لرئاستها. فالعلامة عبد الرءوف المناوي يتناول فيه كل ما يتعلق بتولي الحكم . وفي زمنه، زمن العثمانيين، كان الحاكم يلقب بالسلطان، لذا سمي كتابه " الآداب السلطانية ". يتحدث الكتاب عن تعريف الحاكم وشروطه، وعما له وعليه، وواجباته تجاه الرعية أو المواطنين بلغة عصرنا، بل وواجباته تجاه نفسه وما يحتاجه من الطب الجسماني والطب الروحاني أو النفسي بلغة عصرنا. إلي هذا الحد كان المؤلف واعيا بأهمية الجانب النفسي في حياة الحاكم وانعكاسه علي ممارسة سلطاته. وأضاف إلي هذين الطبين حاجة الحاكم إلي امتلاك ملكات خاصة مثل الفراسة والحكمة . وقد نزل الإمام المناوي إلي من دون الحاكم لأنهم مساعدوه أو أدواته في الحكم مثل نائبه ووزرائه وسفرائه وقادة الجيوش وحتي الجنود . موضوع الحكم والحكام أو موضوع السلطة بلغة الحاضر وكل ما يتعلق بها بشكل عام ليس جديدا علي تناول العلماء والمفكرين والكتاب فهو يعود إلي فلاسفة الحضارات الأولي في تاريخ الإنسانية . تناوله علي سبيل المثال الفيلسوف اليوناني " أرسطو " في مؤلفه المترجم إلي العربية " السياسة والفراسة في تدبير الرياسة ". وكثير من الكتاب المسلمين والعرب مثل الإمام الغزالي في " التبر المسبوك في نصيحة الملوك " و تاج الدين السبكي في " معيد النعم ومبيد النقم " وابن عبد ربه الأندلسي في " العقد الفريد " والماوردي في " الأحكام السلطانية " . وهكذا حتي زماننا المعاصر . في الوقت نفسه يبدو أنه لم تتم دراسة هذا التراكم من المؤلفات المعنية بالحكم في عالمنا العربي والتي أطلق عليها محقق الكتاب " النص أو الأدب السلطاني " . وقد قدم لنا المحقق إشارات عنه في مقدمته . ومن أهم ما أشار إليه قوله :" علي الرغم من ترويج النص السلطاني للقيم الأخلاقية بعامة والعدالة بخاصة كأساس له، فإن عنايته بكل ما يتعلق بممارسات السلطان من النوم والأكل ومجالسة الندماء وصحبة السلطان، قد أدي إلي صناعة السلطان المتخيل الذي تكتسي كل ممارساته قيمة وأهمية مما يضفي علي هذه الشخصية هالة من القداسة والأسطورية، وهو ما يكرس الاستبداد في ممارسة السلطان أحيانا " . هذا كلام مهم لرئيس مصر القادم وللمرءوسين معا . وبخاصة للمشاركين في صناعة الأسطورة وعلي الأخص المشتغلين في وسائل الإعلام بكل أشكالها . عليهم أيضا الاتعاظ مما حدث في ثورة يناير المجهضة . فقد ارتدت أعمالهم معكوسة علي الحاكم الذي قدسوه وعليهم أنفسهم وعلينا جميعا . أنتقي من كل صفات الحاكم الواجبة التي فصلها المؤلف صفة أفرد لها بابا خاصا وسماه اسما جميلا ذا دلالة وهو " في العدل وشرفه ". فحقا ما حفظناه من طفولتنا أن " العدل أساس الملك". العدل ليس مانعا فقط لنقيضه أي الظلم، لكنه حين فعله مانع أيضا لكثير من النقائص كالفساد فهما صنوان. مما قاله الإمام المناوي وأهديه لرئيس مصر القادم : " اعلم أن العدل قوام الدنيا والدين . وسبب صلاح المخلوقين. وله وضعت الموازين . هو المرغوب المألوف . المؤمن من كل خوف. به تتآلف القلوب وتلتئم الشعوب . يظهر الصلاح وتتصل أسباب النجاح وتنعقد عري اليمن والفلاح ويشمل الناس التناصف والتوصل والتعاطف. هو مأخوذ من الاعتدال الذي هو القوام والاستواء المجانبين للميل والالتواء. هو ميزان الله في أرضه الذي توفي به الحقوق وتراءب به الصدع والفتوق. حقيقته وضع الأمور في مواضعها لا موضع الشدة مكان اللين وعكسه. ولا السيف مكان السوط وعكسه. إلي ذلك أشار المتنبي : وضع الندي في موضع السيف بالعلا.. مضر كوضع السيف في موضع الندي . و" الإنصاف استيفاء الحقوق، وإخراجها باليد العادلة والسياسات الفاضلة . العدل نوعان نتيجتهما علو الهمة وطلب براءة الذمة. باكتساب الفضائل واجتناب الرذائل ." ويضيف المؤلف: " اعلم أن أصول العدل والإنصاف تسعة، الأولي أن تعرف قدر الولاية وخطرها فإنها نعمة، من قام بحقها نال السعادة ما لانهاية له، ولا سعادة بعده . ومن قصر عن النهوض بحقها وقع في شقاوة لا شقاوة بعدها . ودليل عظيم قدرها وجلال خطرها ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة) . فانتبه إلي ما أنت مقدم عليه يا رئيس مصر القادم .