أسفرت الجولة الأولي من الإنتخابات الرئاسية عن السيناريو الكارثي الاسوأ الذي كانت تخشاه القوي الثورية والوطنية المؤمنة بالدولة المدنية، وربما كان يطاردها في اكثر كوابيسها سوادا.. نحن الآن محشورون بين سندان الدولة الدينية ممثلا في المرشح الإخواني الدكتور محمد مرسي، ومطرقة نظام مبارك العائد بكل مكوناته وفساده واستبداده مُجسَدا في المرشح أحمد شفيق.. جولة الإعادة كما قال البعض ستجري بين " المخلوع مبارك ومُرشد الجماعة".. ولو فاز شفيق فإن ذلك سيكون معناه القضاء علي الثورة تماما بنفس الطريقة التي تم بها القضاء علي الثورة الرومانية عندما تم تشويه الثورة والثوار وشيطنتهم لتمهيد الطريق لعودة أحد أركان نظام شاوسيسكو الي السلطة.. أما إذا فاز مُرسي فسنكون قد سلمنا البلاد بكل سلطاتها الي الاخوان الذين لم يكونوا علي مستوي المسئولية التي وضعها الشعب علي عاتقهم بعد ثورة 25 يناير.. فقد كان آداء الإخوان وحزبهم كارثيا ومروعا بكل المقاييس.. وثبت من السياسات ومشاريع القرارات التي شهدناها عقب الإنتخابات البرلمانية التي منحت الاغلبية لتيار الإسلام السياسي ، أننا أمام مجموعة من الهواة الذين لم يخرجوا من جلباب الجماعة وفكرها، بل لا ابالغ إذا قلتُ إن الجماعة وحزبها ونوابها تصرفوا ولا زالوا يتصرفون بعقلية السجين السياسي بكل ما فيها من عُقَد وهواجس.. وسأكتفي هنا بشهادة كاتب إسلامي هو الاستاذ فهمي هويدي الذي عقد مقارنة بين جماعة الاخوان المسلمين في مصر وحزب النهضة الذي يمثل تيار الإسلام السياسي في تونس، وخَلُصَ الي أن النهضة استطاعت أن تُعلي مصالح الوطن فوق مصالح الحزب بينما فشل الاخوان في إعلاء مصالح الوطن فوق مصلحة الجماعة!!.. وأعتقد أن أي مراقب موضوعي لن يجد أدني صعوبة في رصد أخطاء وخطايا الإخوان منذ الإنتخابات البرلمانية وحتي كتابة هذه السطور.. فقد أسفرت الجماعة وحزبها ونوابها عن وجه جديد تماما بعد الإنتقال من غياهب السجون الي سلطة التشريع.. بدأت القصيدة بالتنكر للميدان إذ أعلن قادة الإخوان مبكرا أن شرعية البرلمان تجُب شرعية الميدان .. ثم شرعوا في الإساءة الي الثوار واتهامهم بتنفيذ أجندات أجنبية من خلال محاولة تعطيل العملية الديمقراطية، وهي نفس التهم التي كان نظام مبارك يوجهها الي الثوار.. ناهيك عن تخلي الإخوان عن تعهداتهم للقوي الوطنية بالتنسيق والمشاركة ، وذلك قبل لجوئهم الي الإستئثار والمغالبة حتي وُصفوا بأنهم ورثوا "إحتكار الحزب الوطني" المنحل.. ظهر ذلك جليا في سيطرتهم علي لجان مجلس الشعب مع حلفائهم من النواب السلفيين.. ثم محاولتهم "التكويش" علي اللجنة التأسيسية المعنية بوضع مشروع الدستور الجديد .. وحتي بعد حكم القضاء الإداري الذي أبطل تشكيل هذه اللجنة لا يزال نواب حزب الحرية والعدالة يعطلون جهود إعادة تشكيل اللجنة بصورة تحقق التوافق بين مختلف القوي الوطنية ومكونات المجتمع .. أضف الي ما سبق مواقف الإخوان الممالئة للمجلس العسكري علي حساب الثورة ، ومن ذلك الترحيب بحكومة الجنزوري التي رفضها الثوار ووصفوها بأنها حكومة "الحزب الوطني" وليست حكومة "الإنقاذ الوطني" التي طالب معسكر الثورة بتشكيلها، فضلا عن إساءة استغلال التشريع في تحقيق مصالح حزبية ضيقة ، كما حدث في قانون العزل السياسي، وفي التغول علي السلطة القضائية أو محاولة الضغط عليها ، كما حدث في الهجوم الغريب وغير المبرر علي المحكمة الدستورية.. كل ذلك عزز عدم ثقة القوي السياسية في الإخوان ودفعها الي إتهامهم بالخداع والإنتهازية والكذب.. ومن هنا تأتي صعوبة تحالف القوي الثورية والوطنية المؤمنة بالدولة المدنية مع الإخوان في جولة الإعادة بالإنتخابات الرئاسية.. إلا أن رفض هذا التحالف المُر من جانب معسكر الثورة سيضعه أمام البديل الأسوأ والاكثر مرارة وكارثية ، ألا وهو فوز شفيق بالمنصب الكبير وإعادة إنتاج نظام مبارك.. وهنا ستكون الثورة قد تعرضت للإجهاض وتكون كل تضحياتنا الغالية، وخاصة ارواح ودماء الشهداء والمصابين، قد ذهبت سدي.. وهي خسارة فادحة لا يمكن أن تطوف بخيال أي وطني مخلص.. وهنا نجيء الي الحل المقترح للخروج من هذا المأزق التاريخي المعقد.. وأري أن من الممكن ، إذا صحت النوايا وتخلي الإخوان عن تاريخهم الطويل في المراوغة والخداع، عقد إتفاق مكتوب ومعلن بين مختلف القوي الثورية والوطنية من جانب، والإخوان من جانب آخر ، بهدف التنسيق في جولة الإعادة ثم التعاون فيما بينهما حتي نهاية فترة الرئاسة الجديدة.. ويمكن أن يتضمن الإتفاق تسوية نهائية للخلاف الخاص بتشكيل لجنة صياغة مشروع الدستور وطريقة الموافقة علي مختلف مواده.. وكذلك تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة بعد الإنتخابات الرئاسية يتم التوافق علي رئيسها ، وربما أعضائها منذ الآن .. وأتصور أيضا أن يشمل الإتفاق تعيين كل من حمدين صباحي والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح نائبين للرئيس في حالة فوز الدكتور محمد مُرسي .. وذلك أمر طبيعي ومطلوب بعد الأداء الرائع لحمدين في الجولة الاولي من الانتخابات .. وأعتقد أن "ظاهرة" حمدين تستحق أن تخضع لدراسة متأنية تُنصف هذا المرشح الرئاسي المتميز الذي صنع معركة "ساحرة" بأقل إمكانيات مادية ممكنة رغم تعرضه لحملة تشويه غير أخلاقية.. ويمكن لحكومة الوحدة الوطنية المقترحة أن تضم شخصيات ثورية تحظي بالشعبية والإحترام مثل المستشار زكريا عبد العزيز والمرشح الشاب خالد علي.. وربما يتساءل البعض، كما فعل أصدقاء عديدون ناقشت هذا الإقتراح معهم ، " ومَن أدراك أن الإخوان يمكن أن يوافقوا علي هذه الشروط ، والإلتزام بها إذا وافقوا عليها"؟.. واقول إنه لا بديل أمام الإخوان سوي ذلك.. فإما الإتفاق مع القوي الوطنية والفوز بالرئاسة ،أو العودة للمعتقلات!!..