أحمد الجمال منذ قام الملك مينا بتوحيد مصر ووضع وجهيها، البحري والقبلي، تحت تاج واحد قبل أكثر من خمسة آلاف عام وإلي المخلوع مبارك الذي تم تفتيت مصر تحت إهماله وجهله، وإن بقيت أرضها واحدة؛ ومصر يحكمها قادة عسكريون! وحتي في الفترة التي يسميها البعض زورا بالفترة الليبرالية قبل 1952 كان الحاكم هو عسكريا من سلالة القائد العسكري محمد علي باشا، ولم يكن رؤساء الوزارات المتوالون بعد دستور 1923 حكاماً لمصر بل كانوا يكلَّفون بالوزارة ويقالون منها! كان كل حكام مصر منذ الغزو الإغريقي، وبعده الروماني، ثم الفتح العربي والحقب من بعده، انتهاء بالمحروسة، ضمن حوزة الخلافة العثمانية التي سقطت في العقد الثالث من القرن العشرين قادة عسكريين، وكانوا كثيرا ما يتصارعون في فترات الانحطاط والاضمحلال فيحل قائد مكان آخر! ويحدثنا التاريخ أن نهوض مصر وقوتها داخليا وخارجيا وازدهار الحياة بمختلف جوانبها فيها أو العكس لم يكن مرتبطًا بأن الحاكم عسكري أو مدني أو خليط.. لأن النهوض والقوة والازدهار أمور إن توافرت شروطها الموضوعية حدثت وفق الناموس الكوني الذي يربط المقدمات بالنتائج والأسباب بالأهداف، بصرف النظر عن هوية القائمين علي التنفيذ! بل إنني أذهب إلي أن التاريخ المعاصر الذي نحياه منذ خمسين عاما علي الأقل يشير إلي أن النهوض والازدهار ليسا أيضا مقترنين بالديموقراطية بمضمونها الليبرالي الذي يتغني به المنشدون من كل جنس ولون الآن، لأن النهضة الصينية والكورية الجنوبية كمثلين قائمين الآن ليس فيهما ما يمت للديموقراطية الليبرالية بصلة! القضية إذن هي أن الزعيق بسقوط حكم العسكر "ماشي" لكن "طب وبعدين"؟ خلينا نفترض أن المجلس العسكري اختفي من الواجهة السياسية الآن وفورا، وأن مسئولية تسيير أمور العباد والبلاد ألقيت خارج قاعة ذلك المجلس، وتعالوا نتصور كيف ستجري الأمور في ظل برلمان معيب بمجلسيه، وصراع محتدم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية وتقطيع هدوم جبار بين القوي السياسية حتي بمن فيها المتشاركون في مركب الإسلام السياسي! إضافة إلي شارع ممزق جهويا وفئويا وطائفيا وأمنيا! ووفق السياق السابق يحق أن يسأل البعض سؤالا استنكاريا يبدأ بمقدمة تقول: طبعا لأنك ناصري ومن دراويش ثورة أو انقلاب يوليو العسكري ومن أتباع عبد الناصر فإنك تفضل البيادة الميري لتسحق إرادة الشعب، وقل لنا هل يستمر العسكر في حكمنا وهل يعجبك ما فعله ويفعله المجلس العسكري؟! وأبادر فأقول، وباختصار شديد ومخل: إن مصائر الشعوب ليست "شروة" في أسواق التوحيد والنور، ولا مغامرة في شركات توظيف الأموال التي كان فيها الريان، بابا من أبواب الجنة، ولا هي أيضا واجهة عرض زجاجية في أسواق لندن ونيويورك وباريس، ولا هي متحف للأطروحات الشيوعية والاشتراكية والقومية، وإنما هي واقع له مواصفاته، ويراد له أن ينتقل إلي مواصفات أخري أعمق حضارة وثقافة، وأكثر تقدما علميا وبحثيا، وأقوي صناعيا وزراعيا، وأوفي خدميا وأمنيا، وأن لذلك مناهج علمية وأدوات معرفية وسبلا تطبيقية لها أهلها وخبراؤها، ومعهم إرادة وطنية تترجم إرادة الشعب كله بغير استثناء ولا تمييز ولا ادعاء، وهنا يمكن أن تتوافر هذه المناهج والأدوات والسبل عند سين أو صاد من الأشخاص، وقد يتصادف أنه مدني أو عسكري.. وعندئذ فليس كل من لبس البدلة الاسموكن والكرافتة ديموقراطيا عبقريا، وليس كل من لبس الكاكي والبيادة ديكتاتورا قمعجيا! وزمان قالوا في قريتنا نكتة أن امرأة فلاحة جاءها خطاب من ابنها المسافر ومضت تبحث عمن يقرؤه لها فصادفت رجلا يرتدي جبة وعمامة بيضاء كبيرة فأعطته الرسالة ومن فوره أجابها: لا تؤاخذيني يا ابنتي فأنا لا أعرف القراءة. فردت متحسرة ساخرة: أمال لابس عمة وجبة علي إيه؟ ورد هو باختصار قائلا: خدي البسيهم أنت واقرئي الخطاب! العبرة ليست "عسكرا ومدنيين" إنما هي من يملك الأخذ بأسباب المشروع النهضوي للمحروسة.