1 من الجدير بالذكر أن مصر الفرعونية عبر تاريخها الطويل قد تأرجحت بين الانفصال والاندماج بين السلطتين الدينية والمدنية، ففي بداية حياة الدولة الفرعونية القديمة عرفت الانفصال بين السلطتين الدينية والمدنية، حيث كانت دولة زمنية »مدنية« ولم يستطع رجال الدين أو الطبقة الكهنوتية إحراز أية امتيازات في العهود الأولي للدولة الفرعونية القديمة، وقد ترتب علي انفصال السلطتين الدينية والمدنية في هذه الحقبة الحيلولة دون وقوع الاستبداد والطغيان، إذ كانت لكل سلطة رجالها ووظيفتها وتحققت المساواة بين الجميع ولم تفتئت سلطة علي أخري من هاتين السلطتين. 2 إلا أنه في تطور لاحق علي مسرح الحياة السياسية الفرعونية ظهرت رابطة الولاء الديني أعمق من رابطة الولاء السياسي وحلت محلها وأصبحت لرجال الدين مكانة متميزة وأحرزت طبقة الكهنوتية تقدما ملحوظا في مجال إدارة الدولة حيث سيطرت السلطة الدينية علي زمام السلطة الزمنية واندمجت السلطتان معا واختفي الفصل بينهما الذي كان سائدا في العهود الأولي ويظهر ذلك علي وجه الخصوص في عهد الأسرة الخامسة حينما قام الكاهن »أوسر كاف« بمحاربة الحكام وتمكنه من الاستيلاء علي عرش البلاد بالقوة وقام بتأسيس الأسرة الخامسة متخذا من رجال الدين سياجا له وسندا في إدارة الدولة الفرعونية، وبالتالي سيطرت السلطة الدينية علي السلطة المدنية وحلت رابطة الولاء الديني محل رابطة الولاء السياسي فأصبح رجل الدين يمارس بعض سلطات الشئون الدينية ويمارس كذلك بجانبها بعض سلطات الشئون الإدارية والتنظيمية للدولة الفرعونية. 3 وفي تطور لاحق أيضا فإن سيطرة رجال الدين وتمتعهم بالامتيازات لم يستمر طويلا لاسيما في نطاق الأسرة السادسة وبصفة خاصة في عهد الملك »بيبي الأول«، كما أنه في عهد الملك »بيبي الثاني« خامس ملوك الأسرة السادسة عاد الانفصال بين السلطتين الدينية والمدنية مرة ثانية، حيث اندلعت الثورة ضد رجال الدين بسبب احتكارهم للسلطات كافة ولكل شيء في الدولة الفرعونية، وعادت الدولة الفرعونية مرة أخري إلي سيرتها الأولي خاصة إبان ملوك الدولة الوسطي حيث عملوا علي انتهاء سيطرة السلطة الدينية علي السلطة المدنية والحد من احتكار رجال الدين للسلطة. 4 وفي عهد الدولة الحديثة في مصر الفرعونية يعود الاندماج مرة ثانية بين السلطتين الدينية والمدنية، حيث سيطرت السلطة الدينية علي زمام السلطة المدنية وثار الصراع العنيف بين ديانة الإله »آمون« وبين ديانة الملك »أمنحتب الرابع« الذي عرفت باسم »اخناتون« وذلك من أجل سيطرة السلطة الدينية، إذ نادي »اخناتون« بضرورة عبادة الإله »آتون« بيد أن »آمون« كتب له الغلبة والنصر واتسعت سلطات الكهنة لاسيما ضد الملك نفسه، مما حداهم إلي الاستيلاء علي مقاليد السلطة ومرة أخري يعود الاندماج بين السلطتين الدينية والمدنية وتصبح الدولة ذات صبغة دينية، وقوي نفوذ الكهنة في كل شيء سواء من النواحي السياسية أو الدينية والاجتماعية أو الاقتصادية وأصبحت دولتهم دينية محضة ليندرج تحت لوائها كل أنشطة الدولة وقد بلغ ازدياد نفوذ الكهنة توهجا في عهد الأسرة الحادية والعشرين حيث تولي كاهن آمون الأعظم »حرحور« عرش البلاد، وكذلك كان نفوذ الكاهن الأكبر لمعبد الإله »آمون« في الكرنك قويا ومؤثرا، وترتب عليه ازدياد نفوذ الكهنة ضعف سلطات الملوك الفراعنة، حتي أن بعض الكهنة الأقوياء اطلقوا علي أنفسهم دون خشية من الملك لقب »رئيس أنبياء مصر العليا والسفلي« وذلك للدلالة علي مدي تأثير وسيطرة السلطة الدينية علي أمور وشئون السلطة المدنية وترتب علي ذلك أن رجال الدين أصبحوا هم المسيطرين الفعليين لنظام الحكم الفرعوني وصاروا يمارسون السلطات جميعها في داخل أرجاء البلاد وذلك علي النحو الوارد تفصيلا في رسالتنا للدكتوراه عام 7991 عن مبدأ الفصل بين السلطات في العالم القديم. 5 وفي تطور أخير في عهد الأسرة الرابعة والعشرين عصر الملك »بوكخوريس« العظيم الذي مثل بمفرده هذا العصر والذي أصدر أهم تشريع في الدولة الفرعونية إذ وضع هذا الملك منذ البداية نصب عينه محاربة كل رجال الدين ورجال الاقطاعيين الذين كانوا يسيطرون علي الدولة الفرعونية بأكملها دون مساواة بين الناس وحاول القضاء علي سيطرة السلطة الدينية علي السلطة المدنية ووقف الملك »بوكخوريس« بقوة ضد طغيان السلطة الدينية وحارب بضراوة رجال الكهنة الذين كانوا يسيطرون علي مقاليد الحكم وانتهي به الأمر إلي السيطرة عليهم والقضاء علي تمردهم وكسر نفوذهم وأخضعهم جميعا تحت سيطرته الإلهية كملك فرعوني وجعلهم يدينون بالولاء للسلطة الملكية، وهكذا يبدو لنا الصراع بين السلطتين الدينية والمدنية في مصر الفرعونية الذي كان في العنصر الأعم والأغلب منه انفصالا بين السلطتين الدينية والمدنية وقد ترتب علي الانفصال بين هاتين السلطتين الحد من الفساد والحيلولة دون الطغيان أو الاستبداد وعدم افتئات سلطة علي أخري لانفصالهما وتحديد وظيفة كل منهما والأشخاص القائمين عليهما مما أسهم في انتشار العدالة والمساواة بين الجميع....... إنها دروس من ذاكرة أعظم حضارات الإنسانية قاطبة علي الرغم من أن الشعب المصري الفرعوني هو أكثر الشعوب تدينا وتمسكا بأهداب الدين والعقيدة، ويجب علي الجميع الآن قراءة الحاضر واستقراء المستقبل علي ضوء تجارب الماضي...