وفي غمرة فرحتنا تعجلنا الذهاب الي العُرس فلبسنا سترة السهرة ونسينا ارتداء باقي الملابس حين التقيته قبل عشرين عاما بالتمام والكمال لم يترك في نفسي انطباعات تذكر. بل ان فضولي بعد مقابلته تضاعف.. لماذا نصحني الأستاذ المشرف علي مشروعي الصحفي في جامعة بوسطن بمقابلته؟ »بالمناسبة كان هذا الأستاذ يهودياً«. كنا في عام انتخابات رئاسية ستجري في نوفمبر1992.عشرون صحفياً مصرياً نقضي ثلاثة شهور في برنامج تدريبي بعدد من الولاياتالأمريكية. الإقامة الأطول والبرنامج الأكثر كثافة وحيوية وحِرفية كانا في كلية الإعلام بجامعة بوسطن أو »بي - يو« بولاية ماساتشوستس. اختار كل منا موضوعه الذي سيقوم بتحقيقه. انصب اهتمامي علي الظاهرة الجديدة الطارئة علي الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي سميت وقتها ب»الطريق الثالث«، وعلي القنبلة التي فجرها خوض المرشح المستقل روس بيرو لانتخابات الرئاسة الأمريكية منافساً لكل من المرشح الديموقراطي بيل كلينتون والمرشح الجمهوري جورج بوش الأب. فما هي القيمة السياسية التي يتمتع بها هذا الشاب »ميت رومني« كي يرتب لي الأستاذ المشرف لقاء معه؟ »نعم هو نفسه المرشح الرئاسي المنافس لأوباما الآن« صحيح هو رجل أعمال ناجح استطاع ان ينقذ شركة »بين« »تنطق بالإمالة شبيهة للكلمة العامية فين« من الإفلاس. وهي احدي شركات الاستشارات العملاقة كان رومني قد ساهم في تأسيسها وظل يعمل بها حتي اختلف مع مجلس ادارتها وغادرها. وحين تعرضت لكبوة مالية وتزايدت خسائرها استُدعي المليونير الثري ومؤسسها السابق لإنقاذها، فحقق معجزة اقتصادية بإعادة هيكلتها وربح هو والشركة بعد ذلك المزيد من الملايين.هي قصة نجاح تثير الإعجاب لكن رومني ليس عضوا في أحد الحزبين الكبيرين وليس من أنصار روس بيرو الذي أجري تحقيقي الصحفي بشأنه. فلماذا؟ كل ما برر به المشرف اختياره لرومني انه " شخص واعد" يبدي اهتماماً بالسياسة لكنه ليس منخرطاً فيها. هو فقط نموذج لسياسي ناجح ينتظر ميلاده! وهو مستقل وقد يفيدني في دراسة ظاهرة الاستقلال عن الحزبين الكبيرين. طوال المقابلة في مكتبه المتواضع ذي السلالم الحديدية، حدثني رومني عن نجاحه في إحياء شركته التي ساهم في تأسيسها وقامت علي اكتافه، وكيف انه اعتمد في سياسته الإنقاذية علي أمواله الخاصة وأنه قرر تقديم مثل يحتذي به، فحدد لنفسه راتباً رمزياً قدره دولار واحد. أي إنه لم يأكل من لحم الشركة المفلسة التي هو أحد آبائها وبذل مجهوده المجاني ونجح في إتمام مهمته. سر التحولات في ملاحظاتي الهامشية عن هذه المقابلة وجدتني كتبت العبارة التالية: »يبدو انه ديموقراطي الهوي.. يُظهر إعجاباً شديداً وتعاطفاً مع بول تسونجاس السيناتور الديموقراطي من ولايته«. بعد عودتنا الي الوطن بما يقرب من العام عرفت بانضمامه للحزب الجمهوري! كانت تلك اولي حلقات تبلوره وتحوله السياسي، من الاستقلال الي الحزبية. علي مدي السنوات العشرين الماضية كنت اراقب عن بعد القفزات السياسية التي حققها رومني هذا الرأسمالي الذي يحسبونه الآن واحداً من أغني مرشحي الرئاسة الأمريكية علي الإطلاق. أحد أسرار قفزاته السياسية بخلاف سطوة المال والعقلية الجبارة هي ساعده اليمني لسنوات »اورتيجا«، التي كانت همزة الوصل بينه وبين مشرفي اليهودي، وسمعت منه انها مفتاح بوابة الوصول إلي رومني. لم اقابلها قط، لكني عرفت فيما بعد ان اسمها الرسمي هو »أوريت جاديش«، وهي الآن واحدة من أقوي عشر نساء حسب مجلة فوربس. لكن المفاجأة هي ان اورتيجا هذه أو أوريت ابنة لأحد ضباط الجيش الإسرائيلي عضو سابق في هيئة أركانه في الخمسينيات، ولدت في حيفا وأتمت خدمتها العسكرية الإلزامية في الجيش الإسرائيلي، وعملت بالقرب من عيزر فايتسمان وموشيه ديان في السبعينيات! وهي في الوقت الحالي عضو مجلس ادارة مركز پيريس للسلام. علاقة رومني مع اسرائيل لم تقتصر فقط علي اقترابه من اوريت، فهو صديق قديم لرئيس الوزراء الحالي بنيامين نتانياهو، إذ جمعت بينهما الزمالة في بواكير حياتهما المهنية حين عملا كاستشاريين بمجموعة بوسطن للاستشارات. المؤسسة الصهيونية تحرك إذاً مياه السياسة الأمريكية، وتشارك عن قرب في صناعة الرؤساء، وإن كان ذلك يتم من وراء الستار في كثير من الأحيان. كلام كثير يتردد دونما وجود دليل دامغ عليه، مجرد قرائن ومشاهدات شخصية ومحاولة التسلي بقواعد لعبة تجميع أجزاء الصورة أو »البازل« التي أهواها. مصانع سرية للزعماء لا يأتي رئيس في العالم بالصدفة أو فجأة، إلا إن كان هابطاً بباراشوت الانقلاب العسكري أوصاعداً علي اكتاف ثورة. وفي العالم الديموقراطي يأتي الرئيس عبر الانتخابات الحرة التعددية. لكن قبل ان يصل لصناديق الاقتراع ثمة عملية طويلة ومعقدة تؤهله للزعامة والمنافسة، فيها الكثير من النضال ومساحة واسعة من الخبرة في العمل السياسي. في الولاياتالمتحدة تحديداً هناك ما يمكن تسميته بمصانع الرؤساء. منها ماهو نظامي ومعلن ومنها ما هو سري وخفي. توجد هناك جامعات ومؤسسات علمية تفتخر بأنها مصانع للرؤساء. أشهرها جامعتا هارڤارد، و"ييل" اللتان اجتمع فيهما أكبر عدد من الرؤساء الأمريكيين، فهما تجتذبان الطامحين في دخول السيرك السياسي. بيد أن هناك مصانع سرية أخري للرؤساء والزعماء والسياسيين ونجوم المجتمع، لها نفوذها وتأثيرها علي صناعة القرار، واختيار المرشحين للمناصب العليا. وتتمثل هذه المصانع السرية الأمريكية في المراكزالبحثية التي لا ترتبط غالباً بالحكومة والجمعيات السرية والاتحادات والأخويات. هي جماعات مصالح في الأساس تملك زمام المؤسسات الاقتصادية الكبري كالبنوك والشركات الكبري صاحبة العلامات التجارية، ودور النشر ووسائل الإعلام بحيث تضمن السيطرة علي مفاصل المجتمع بالكامل. هذه المصانع السرية تقوم بتأهيل أعضائها للمواقع المهيمنة سواء في المجالات السياسية أو الاقتصادية أو الإعلامية، وتدفع بهؤلاء تحت الأضواء، فيحظون بشهرة متسارعة ويصبحون حديث المجتمعات والدوائر، وحين ينضج الشخص ويخوض علناً معركة انتخابية أو يؤدي مهمة تم تكليفه بها تجد جماعته تقف وراءه تدعمه وتمول حملته. وتحرص هذه المصانع »إن جاز التعبير« علي انتقاء افضل العناصر البشرية والنخب لدعوتها الي الانضمام لها. من أشهر هذه المصانع السرية وأوضحها نفوذا هو مجلس العلاقات الخارجية الذي يصدر مجلة فورين بوليسي الشهيرة، ويصف نفسه بأنه جماعة غير حزبية. يضم هذا المجلس في عضويته كل الأسماء التي يمكنك تخيلها من ساسة بارزين ونخب اقتصادية. ما يتصل بحديثنا هنا ان مجلس العلاقات الخارجية كان هو من دعم ترشيح باراك اوباما وهيلاري كلينتون عن الحزب الديموقراطي في الانتخابات الماضية كما دعم ترشيح ميت رومني ورودي چولياني عن الحزب الجمهوري! هوه.. هوه لا أستطيع مغالبة الضحك كلما تابعت تحركات مرشحي الرئاسة، وجولاتهم الانتخابية، وتبسطهم المفرط مع الجماهير الزائد عن حد التصديق. ودائماً ما يحضرني هذا المشهد العبقري من فيلم طيور الظلام حين أجبرعادل امام وهو مدير الحملة الانتخابية مرشحه المتأفف جميل راتب علي حمل طفل ريفي متسخ الملابس وتقبيله امام الكاميرات وسط هتافات جماهيرية مأجورة باسم المرشح تحت شعار هوه.. هوه. ولم تسلم ملابس المرشح الباشا من فعلة سوداء من هذا اللعين الصغير. ما تلبث هذه الصورة أن تراودني من حين لآخروأتخيل كل واحد من مرشحي الرئاسة في هذا الوضع البائس.. انها ضريبة الرغبة في الفوز بالانتخابات. منافقة اصحاب الأصوات والتزلف لهم، ورفع التكليف والربت علي كتف هذا وتقبيل ذاك ومصافحة هؤلاء بحرارة فرداً فرداً ومعانقة آخرين بينما هو لا يطيق رائحة عرقهم البشعة، اداء واجب العزاء والمجاملة في الأفراح وهو يتمتم في قرارة نفسه »سحقاً لهذه المهمة الثقيلة .. متي تنتهي؟«. إنها الصورة الذهنية التي يحرص كل مرشح علي أي مستوي وفي أي مكان في العالم علي طبعها في نفوس جماهير ناخبيه، صورة الشخص الودود البسيط المتواضع القريب من قلوبهم وهمومهم المنفتح والمتسامح. إعداد هذه الصورة مهمة مديري الحملات الانتخابية، ويقاس مدي نجاحهم في تثبيتها لدي الناس بقدر الإلحاح بها علي أدمغة الناخبين وقدرتهم علي إقناعهم بصدقها. وهذه هي القشرة الخارجية الظاهرة، أو الرتوش النهائية التي تكمل عملية صناعة الرؤساء وقد تفيدها.. وفي أحيان كثيرة تضرها. البحث عن رئيس لمصر بدأ هذا النظام الذي ابتدعته واشنطن لصناعة الزعماء يتسرب الينا منذ ما قبل ثورة يناير، لكن بشكل محدود نتيجة للقيود التي فرضها الوضع السياسي الذي كان قائماً. وحين ظهرت جماعات المعارضة غير الحزبية مثل حركة كفاية، و6 أبريل، وكلنا خالد سعيد، وانضمت اليهم النخب الثقافية والأكاديمية انشغلوا جميعا بالدعوة للتغيير، دون الالتفات الي ضرورة تجهيز الرئيس البديل. فتحولت العملية من صناعة زعيم إلي البحث عن زعيم جاهزلديه القدرة علي مناطحة الرئيس، رأينا للمرة الأولي قوي سياسية تلتف حول شخصيات معينة وتدعوها لخوض الانتخابات الرئاسية، فكانت الدعوة للدكتور محمد البرادعي، كما تردد اسم الدكتور احمد زويل. لكن أياً منهما لم يحظ بالقبول الجماهيري المطلوب، لأن الكفاءة العلمية وحدها حتي لو كانت مقرونة بمكانة دولية وسمعة طيبة لا يمكن ان تنتج رئيساً ناجحاً أو قائداً علي قدر قيادة مصر. وبعد الثورة اتخذت عملية صناعة الزعيم شكلا عشوائياً، بدونا كأننا فوجئنا بعد خلع مبارك بالحاجة لإيجاد بديل علي وجه السرعة، وفي غمرة فرحتنا تعجلنا الذهاب الي العُرس فلبسنا سترة السهرة ونسينا ارتداء باقي الملابس. ظهرت بشكل مفاجئ جماعات تأثير سياسية غير منظمة، وشبكات فضائية مستقلة مملوكة لرجال أعمال يتسابقون علي امتلاك أبواق دعائية تهيئ لهم إعادة تشكيل العقل الجمعي المصري والهيمنة عليه. نشطت المراكز البحثية ومؤسسات استطلاع الرأي. وانتشرت الإعلانات التجارية حاملة معها عبارات ثورية شائهة تستخف بالقيم النبيلة التي تحاول ثورة يناير إرساءها فيضفونها علي منتجات قطنية وغذائية. لاحظنا إلحاحاً من بعض الوجوه تتكرر في كل القنوات.. قيادات جديدة بدأت تبرز، ونجوم تبزغ وتنتشر، لكن أحداً منهم لم يصبح بطلاً شعبياً. مشكلتنا في مصر أن أصحاب مصانع الزعماء الجدد حين أرادوا محاكاة تجارب الآخرين، قلدوا الشاسيه الخارجي ولم يمتلكوا اسرار المعرفة أو الknow how فصبوا تركيزهم علي وسائل الإعلام دون غيرها من ادوات الإنتاج الأخري، ظناً منهم ان التلميع والترويج الإعلامي لشخص ما كافٍ لتحويله الي رئيس محتمل دونما اجتياز لمراحل الانتاج الأخري كالتدريب والممارسة الفعلية للإدارة والحكم بمستوياتهم المختلفة.